1: الإطار الروحي والفكري للرؤية الإسرائيلية للقدس:
  • هل يمكن التعرف على الرؤية الإسرائيلية للقدس بمعزل عن الرؤية اليهودية للقدس؟
  • وهل يمكن التحدث عن رؤية يهودية واحدة للقدس؟ أو أن هناك اكثر من رؤية يهودية للقدس.
  • وما مكانة القدس لدى اليهودية وإسرائيل؟

ترتبط الرؤية الإسرائيلية للقدس ارتباطا لا انفصام له بالرؤية اليهودية للقدس في بعديها الروحي والدينوسياسي. إذ جاءت الرؤية الإسرائيلية للقدس رد فعل سلبي على الرؤية الروحية للقدس ومتطابقة تماما مع الرؤية الدينوسياسية ومؤسسة عليها ومستوحاة منها.

وعليه فان الإحاطة بالرؤية الإسرائيلية للقدس تستدعي التعرف أولا على البعدين الروحي والدينوسياسي للقدس لدى اليهودية الروحية اللاصهيونية، واليهودية الصهيونية.

1:1 اليهودية الروحية:

ينظر مفكرو اليهودية الروحية وفي مقدمتهم اليهودي الألماني الأصل مندلسون (1729-1786) “لليهودية على أنها مجرد عقيدة دينية يهتدي بها اليهودي في حياته الخاصة، مع التأكيد على ضرورة اندماجه في محيطه المجتمعي ثقافة وعادات وتقاليد دفعا للاضطهاد عنه”. بمعنى أن فكرة “الدولة اليهودية ” غير واردة في التفكير اليهودي الروحي. لذا فهي مرفوضة أصلا. ويتبدى هذا الرفض القاطع لفكرة الدولة اليهودية من خلال قول الحاخام اسحق ماير وايز:

“نحن نرفض كليا كل محاولة ترمي إلى إنشاء دولة يهودية ، لان محاولات كهذه ترسخ قطعا مفهوما خاطئا لرسالة إسرائيل…التي كان أنبياء اليهود أول من بشر بها…ونحن نؤكد أن هدف اليهودية ليس سياسيا ولا قوميا، و إنما هو هدف روحي. انه يهدف إلى الوصول إلى مرحلة رسالية يصل فيها جميع الناس إلى الاعتراف بأنهم ينتمون إلى مجموعة واحدة كبيرة لاعادة مملكة الله على الأرض”.

وكذا نحا مارتن بوير لفكرة الدولة اليهودية التي يتزعمها التيار اليهودي الصهيوني.ففي خطاب له أمام المؤتمر الصهيوني الثاني المنعقد في كارلباند بتاريخ 5/9/1921م ذكر قائلا: “…لقد ابتعد الدين اليهودي عن جذوره. وهذا هو جوهر المرض الذي تمثلت أعراضه بولادة القومية اليهودية في منتصف القرن التاسع عشر. وهذا الشكل الجديد للرغبة في الأرض هو السند الأساسي الذي يدل على ما أخذته اليهودية القومية الحديثة من القومية الغربية الحديثة… كنا نأمل أن ننقذ القومية اليهودية من الوقوع في خطا جعل العب صنما، ولكننا فشلنا”.

وكان البروفيسور جوادس ماجنيس، رئيس الجامعة العبرية، قد قاده حدسه إلى التنبؤ مبكرا لمخاطر السياسة اليهودية الصهيونية وبخاصة ما يتعلق منها بـ “إعادة بناء الدولة اليهودية” في فلسطين كما جاء في مقررات مؤتمر بلتيمور لعام 1924م وبرنامجه السياسي. وتكمن خطورة قيام دولة يهودية في أنها ستفضي حتما إلى حرب مع العرب ستكون عواقبها وخيمة،إذ كتب آنذاك قائلا:

إن الصوت اليهودي الجديد يتحدث من فوهة البنادق … هذه هي التوراة الجديدة لأرض إسرائيل … لقد اقتيد العالم إلى جنون القوة، وليحمنا الله الآن من ربط اليهودية وشعب إسرائيل بهذا الجنون. أنها يهودية وثنية هذه التي استقطبت جزءا كبيرا من يهود الشتات ويتحمل يهود أمريكا كلهم مسؤولية هذا الخطأ،حتى أولئك الذين لا يوافقون على أفعال التوجه الوثني لكنهم يضلون مكتوفي الأيدي. إن شلل الحس الأخلاقي يؤدي إلى ضموره”.

أما ابرت انشتاين فقد أدان بشدة التوجه الطاغي لدى تيار اليهودية الصهيونية الساعي إلى إعادة بناء الدولة اليهودية في فلسطين، وقاوم بشراسة معارضي اندماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية، ودعا إلى التعاون مع العرب. ففي هذا السياق كتب عام 1938قائلاً:

“أن التوصل إلى اتفاق مع العرب على قاعدة حياة مشتركة هادئة هو برأيي اكثر معقولية من إنشاء دولة يهودية … انه وعيي للطبيعة الجوهرية لليهودية، يصطدم بفكرة دولة يهودية ذات حدود، ولها جيش، ومشروع سلطة أرضية وضيعة. أنا أخاف من الأضرار الداخلية التي ستصيب اليهودية نتيجة نمو القومية الضيقة في صفوفنا. نحن لم نعد يهود المرحلة. والعودة إلي شكل الأمة بالمعنى السياسي للكلمة هي أمر مساو للتحول من روحانياتنا التي ندين بها لأنبيائنا”.

ان مقاومة اليهودية الروحية لفكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين لم تخب حتى بعد قيام دولة إسرائيل على جزء من ارض فلسطين. إذ ظل مفكرو وأنصار هذا التيار يعارضونها ويوجهون نقدا شديد اللهجة لأسرائيل منكرين عليها حق التحدث باسم اليهود ومؤكدين إن اليهودية دين لا قومية.

وهكذا كان رأى المجلس الأمريكي لليهودية. ففي رسالة وجهها المجلس إلى أحد زعماء اليهودية الصهيونية كريسيان هرتر أنكر فيها على الحكومة الإسرائيلية حق التحدث باسم جميع اليهود مؤكدا في ذات الوقت على أن “اليهودية دين لا قومية”.

أما البروفيسور ليوبونير فقد ذهب في نقده لإسرائيل إلى ابعد من ذلك، عندما ساوى بين اليهودية الصهيونية وبين النازية واصفا سياسة إسرائيل في لبنان وبحق بـ “اليهودية النازية”.

أما القدس فنظر إليها مفكرو اليهودية الروحية على أنها الرابطة الروحية التي توحد اليهود باتجاهين:

  1. لم شمل اليهود في مواطنهم الأصلية وتامين التفافهم روحيا حول العقيدة اليهودية.
  2. تمكينهم من الاندماج في مجتمعاتهم الأصلية.

من خلال ما تقدم من استعراض مكثف لطروحات ومواقف التيار اليهودي الروحي اللاصهيوني يمكن القول بان رؤية اليهودية الروحية للقدس تقوم على الأسس الآتية:

  1. القدس عامل توحيد روحي لليهود في إطار مجتمعاتهم الأصلية لتسهيل مهمة اندماجهم في هذه المجتمعات وخلق شعور روحي لدى اليهود بالمواطنة والانتماء لمجتمعاتهم الأصلية.
  2. رفض تهجير اليهود إلى القدس ورفض فكرة توظيف المكانة الروحية للقدس لدى اليهود لأغراض سياسية. بمعنى رفض تسييس الدين أو توظيفه لأغراض سياسية.
  3. ضرورة تعايش اليهود العرب مع أبناء مجتمعاتهم العربية والتعاون معهم.
  4. الرفض التام لفكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين.

2:1: اليهودية الصهيونية والبعد الدينوسياسي للقدس:

السياسة الإسرائيلية تجاه القدس والبعد الدينوسياسي لها،بمعنى التوظيف السياسي لمكانة القدس الدينية لا يمكن فهمها بمعزل عن صورة القدس لدى اليهودية الصهيونية التي تشكل المرجعية الفكرية والسياسية لقادة الحركة الصهيونية وإسرائيل المتحكمة بسلوكها السياسي تجاه الصراع الإسرائيلي-العربي.

صورة القدس لدى اليهودية الصهيونية متعددة الأركان والعناصر يتداخل فيها التاريخي بالديني، والقانوني بالسياسي بطريقة تكشف عن تزوير التاريخ وتطويعه خدمة لطروحات اليهودية الصهيونية وأساطيرها التوراتية ومزاعمها وادعاءاتها القانونية والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

أولا: اليهود هم أول من سكن القدس. ومثل هذه المزاعم الباطلة لا تنكرها الحقائق والمعطيات التاريخية التي سبق التطرق إليها في مكان سابق من هذا الكتاب فحسب، بل يدحضها علماء الآثار والمؤرخون اليهود القدامى والجدد. إذ أثبتت الحفريات الأثرية التي قام بها علماء الآثار اليهود أنفسهم وكذلك تلك التي قام بها علماء الآثار الغربيين أن القدس مدينة عربية يبوسية كنعانية منشأ وسكانا و آثارا وحضارة.

ثانيا: التركيز على إعادة بناء الدولة اليهودية المزعومة في فلسطين انطلاقا من ثلاثية أسطورية توراتية هي:

  1. أسطورة شعب الله المختار.
  2. أسطورة الوعد الإلهي.
  3. أسطورة التطهير العرقي.

إن هذه الأساطير الثلاث التي جرى هيكلتها بصيغة تفصح عن حقيقتها الاستعمارية الاحلالية من جهة، وعن التخطيط لتوظيفها سياسيا لتحقيق أغراض سياسية أهمها “إعادة بناء الدولة اليهودية” المزعومة من جهة أخرى، تؤشر على أنها مجرد “مجموعة من البدع المتمثلة في قراءة حرفية انتقائية محرفة للنص الديني واستخدام الدين كأداة سياسية، وذلك بإضفاء صفة وطابع القداسة على السياسة حماية وتحصينا لها من النقد والمقاومة باعتبارها عقائد دينية لا يرقى إليها الشك. أي أن السياسة الصهيونية المستندة إلى هذه الأساطير التوراتية هي الوجه الأخر للحقيقة الدينية”.

والدليل على التوظيف السياسي للأساطير التوراتية يتبدى من خلال النشاط الفكري والسياسي للأب الروحي لليهودية الصهيونية ومؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل التي تركز بالدرجة الأساس على إقامة “الدولة اليهودية” على أي ارض تعطى له في أي بلد في العالم. إذ أن هرتسل لم يكن في المرحلة الأولى من تاريخه السياسي مهتما بـ”الأرض المقدسة”، بل بإقناع اليهود والدولة العظمى آنذاك بريطانيا بفكرة الدولة المأمولة، سواء كان ذلك في اوغندا، او في الأرجنتين أو في قبرص، أو في الكونغو.

ان تحول ثيودور هرتسل من القبول بـ “الدولة اليهودية” في أي مكان من العالم لا يتعارض مع طروحاته الابتدائية بشان مكان الدولة اليهودية فحسب، بل يكشف كذلك عن طبيعته الانتهازية من جهة، وعن استغلاله الدين لأغراض سياسية مستفيدا مما تحتويه الأساطير التوراتية من مضامين استعمارية احلالية تطهيرية من جهة أخرى، فثيودور هرتسل بحكم منطلقاته اليهودية الصهيونية من ناحية وحسه السياسي الانتهازي من ناحية أخرى أدرك مبكرا فاعلية “سلطة الأسطورة” التي وصفها في مؤلفه الاستعماري اليهودي الصهيوني “الدولة اليهودية” بأنها “تشكل صرخة اصطفاف ذات سلطة لا تقاوم في مواجهة معارضيه من المؤمنين اليهود”. لذا سرعان ما تحول بالأسطورة من مجال التنظير والتبشير والأعداد لهدف غير محدد الملامح الجغرافية إلى منطقة جغرافية محددة بذاتها ولذاتها معلنا: “إن فلسطين هي وطننا التاريخي الذي لا ينسى… وسيكون هذا الاسم وحده صرخة اصطفاف قوي لشعبنا”.

أي أن فلسطين هي “ارض الميعاد” وليس غيرها. وعليه فان القضية اليهودية لا تعني بالنسبة لثيودور هرتسل قضية اجتماعية ولا قضية دينية، وإنما قضية قومية، أي أنها أولا وقبل كل شيء قضية سياسية، قضية الدولة اليهودية.

إن نظرة فاحصة لطروحات ثيودور هرتسل كفيلة بتسليط الأضواء على حزمة الأهداف المبتغاة من الأساطير التوراتية هي:

  1. إعادة بناء الدولة اليهودية في فلسطين باعتبارها على حد زعمه المكان الذي شهد قيام “الدولة اليهودية” الأولى التي تدعي اليهودية الصهيونية بان سيدنا داود عليه السلام كان قد شيدها في عام 997ق.م وخلفه في حكمها سيدنا سليمان عليه السلام. وهو ادعاء باطل لأسباب عرقية وتاريخية.
  2. ترسيخ دعائم الدولة اليهودية في فلسطين بعد إعادة بنائها.
  3. ضمان سبل استمرارية وديمومة الدولة اليهودية في فلسطين.

أما طبيعة الاستعمارية لدولة هرتسل اليهودية التي تتناقض تناقضا صارخا مع “اليهودية الروحية” شكلا ومضمونا، وهو ما يدلل مرة أخرى على التوظيف السياسي للدين، فتكشفها رسالة ثيودور هرتسل التي بعث بها في 11/1/1902م إلى “سيسيل رودوس” صاحب أول مشروع استعماري إحلالي في التاريخ الحديث طالبه فيها تفحص برنامجه الاستعماري باعتباره خبيرا في تقييم المشاريع الاحلالية جاء فيها:

“أرجوك أن ترسل لي كتابا يقول انك تفحصت برنامجي وانك توافق عليه. ستتساءل لماذا أتوجه إليك يا سيد رودوس لان برنامجي هو برنامج استعماري”.

وكان هرتسل المعجب على ما يبدو من رسالته بـ “سيسيل رودوس” واتخذ منه نموذجه الاستعماري أن أنشأ مثله “جمعية ذات ميثاق تحت حماية إنجليزية باعتبارها الخطوة العملية الأولى نحو إقامة دولة يهودية في فلسطين”.

ثالثاً: التركيز على مشروعية الهدف اليهودي الصهيوني المتمثل بإعادة بناء الدولة اليهودية واستئناف السيادة اليهودية الصهيونية على فلسطين انطلاقا من أساطير ومزاعم يهودية صهيونية مفادها:

  • ان فلسطين كانت موطنا للمملكة اليهودية التي أسسها الملك داود واتخذ من القدس عاصمة لها ورعاها من بعده ابنه الملك سليمان. ففلسطين الدولة هي التجسيد المكاني لثلاثية التوراة والتابوت والهيكل.

واليهودية الصهيونية بمزاعمها وادعاءاتها الباطلة بأحقيتها في فلسطين تستند إلى نسب عرقي مختلق يقودها إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام والى أنبياء بني إسرائيل، علما انه ما ذكر اليهود في القران الكريم إلا في معرض “الكفر، والشرك، والاستنكار، والزجر، والتأنيب، والشجب، والإدانة، والكذب وقتل الأنبياء”. والشواهد والأدلة على ذلك في القران الكريم كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:

(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (المائدة:70)

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة:79)

  • وعد بلفور الذي أعطته بريطانيا على غير وجه حق لليهود وتعهدت فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على أن لا يضر بمصالح وممتلكات سكان البلاد الأصليين. إن هذا الوعد لا يستند إلى أي أساس قانوني بل أملته ظروف الحرب العالمية الأولى ومصالح الحلفاء وبخاصة المصالح الحيوية لبريطانيا العظمى. وخير من عبر عن الطبيعة الاستعمارية لوعد بلفور الكاتب الإنجليزي ارثر كوستلر في كتابه “تحليل المعجزة” الذي جاء فيه:

    لقد شكل وعد بلفور أحد اغرب الوثائق السياسية في التاريخ. انه وثيقة أعطى بموجبها شعب وعدا لشعب آخر ارض شعب ثالث…. مشددا على ضرورة الإفصاح عن الطبيعة الشاذة لهذا السلوك السياسي البريطاني غير السوي قائلا:

    “يجب أن نذكر الطبيعة الجانحة لهذه الحوادث، لأنها تشكل المفتاح الضروري لكل ما تبعها من حوادث”، التي انتهت إلى إقامة إسرائيل و إحلال شعب محل آخر ظلما وخدمة للمصالح الاستعمارية البريطانية.

غير أن الطبيعة الاستعمارية لوعد بلفور لا تتضح بكامل أبعادها إلا من خلال إيجاد الصلة بينها وبين ما سبقها من مشاريع ودراسات استعمارية جعلت المنطقة العربية محوراً لنشاطها الاستعماري وضامناً لمستقبلها الإمبريالي من التلاشي والاندثار. وهنا تبرز أهمية توصيات اللجنة التي كلفها رئيس وزراء بريطانيا “كامبل بنرمان” في عام 1907م لدراسة مستقبل الإمبراطورية البريطانية. انتهت تلك اللجنة التي ضمت نخبة من أساتذة التاريخ والمتخصصين البريطانيين وغيرهم من الدول التابعة للتاج البريطاني آنذاك بعد عمل مضني دام سبعة اشهر إلى نتيجة مفادها ان مستقبل بريطانيا مرهون بسيطرتها على المنطقة العربية. فالخطر الوحيد الذي يتهددها مستقبلاً والضربة القاضية لا يمكن أن تأتيها إلا من هذه المنطقة بحكم موقعها بين الأطلسي والمتوسط، وخيراتها وبخاصة مخزونها النفطي وعوامل وحدتها المادية والمعنوية، الابتدائية الديناميكية ورسالة الإسلام التي يلتف أهل المنطقة حولها، وقابلية أهلها الذهنية للتعلم واكتساب المعرفة واستيعاب التكنولوجيا ومقتضيات العصر. ولهذا فان على بريطانيا العظمى إن أرادت أن تحول دون أن تأتيها طلقة الرحمة من هذه المنطقة اتخاذ إجراءات وقائية تقوم على:

  • الإبقاء على المنطقة العربية مجزأة واستمرار شعبها جاهلاً مفككاً ومتخلفاً.
  • الفصل بين جناحي الوطن العربي الأسيوي والأفريقي.

وهذان الهدفان المركزيان يستوجبان حسبما تراه اللجنة في توصيتها:

“إقامة حاجز بشري قوي وغريب يحتل الجسر الذي يربط اسيا بافريقيا، بحيث يشكل في هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار، وعدوة لسكان المنطقة”.

2: مرتكزات النظرة الإسرائيلية لطبيعة الصراع حول القدس:

نظرة إسرائيل للصراع حول القدس لا يمكن فصله عن نظرتها لطبيعة الصراع الإسرائيلي العربي من جهة وعن نظرة اليهودية الصهيونية لمسألتي الصراع الإسرائيلي العربي والقدس من جهة أخرى. فإسرائيل واليهودية الصهيونية تنطلقان في نظرتهما للصراع الإسرائيلي – العربي وجوهره القضية الفلسطينية من ذات المرتكزات وتسعيان إلى تحقيق نفس الأهداف. الأمر الذي يدعو الدارسين والباحثين وبخاصة العرب إلى البدء بالتعرف على الفهم الإسرائيلي اليهودي الصهيوني لطبيعة الصراع الإسرائيلي – العربي، ومكانة القدس في هذا الصراع. إذ بغير ذلك يصعب على الباحث والسياسي والمؤرخ أن يحيطوا بحقيقة الأهداف الإسرائيلية اليهودية الصهيونية ويجعل الجميع قاصرين عن تحديد كيفية التعامل مع التحديات الخطيرة والمصيرية التي تطرحها اليهودية الصهيونية وإسرائيل، واستراتيجية واليات مواجهة هذا التحدي الذي ابتليت به الأمة العربية وحدها دون غيرها. التحدي الاستعماري الاستيطاني الاحلالي الملغي للذات العربية في فلسطين أرضاً وشعباً.

فما هي المرتكزات التي تستند إليها إسرائيل واليهودية الصهيونية في نظرتهما للصراع الإسرائيلي العربي؟ وما مكانة القدس في هذا الصراع وأهميتها بالنسبة لليهودية الصهيونية، ولكيانها الصهيوني إسرائيل اعداداً وولادة وتثبيتاً واستمراراً؟

تستند اليهودية الصهيونية وإسرائيل في نظرتيهما إلى الصراع الإسرائيلي العربي، ولمكانة القدس في هذا الصراع إلى المرتكزات الآتية:

1:2: نظرية الاصطفاء الإلهي لليهود:

يرى رواد الصهيونية بان اليهود هم “شعب الله المختار”. وغيرهم “الغويمم” (الاغيار) الذين لا يستحقون الحياة. فالاغيار مجرد دواب وبهائم. ونزعة الاصطفاء اليهودي وتفوق اليهود العنصري تبديان بوضوح تام وبشكل يفصح عن عنصرية اليهود الصهيونية وكيانها إسرائيل في دراسة لأحد الرواد الفكريين لليهودية الصهيونية “ألوف هارفين” حول هوية إسرائيل في القرن الواحد والعشرين جاء فيها:

“لو كان اسمنا مجرد شعب، لما كانت هناك صلة بين هويتنا واسمنا، ولكن اسمنا عفويا. وكما أننا نسمي أنفسنا بإسرائيل لكان بالإمكان نسمي أنفسنا بأي اسم آخر يخطر ببالنا. إن أسمينا هما إسرائيل ويهود ومنهما انبثقت التسمية يهودا، والمشترك بين الاسمين هو العلاقة بالله… أي مع ما هو أسمى من الإنسان… فالشعوب الأخرى تعيش بنفسها، ومن اجل نفسها، أما نحن الذين اسمنا إسرائيل، فنعيش للكفاح من اجل ما ينشده منا الآخرون… لذا من الصعب أن يكون الإنسان إسرائيلياً، ومن الصعب أن يكون يهودياً، واكثر صعوبة أن تكون ابنا لشعب آخر”.

أن نظرة فاحصة لهذا القول تقود بسهولة إلى الاستنتاجات الآتية:

  • الطبيعة العنصرية لليهودية الصهيونية المستندة إلى أن الاصطفاء الإلهي حصراً باليهود دون غيرهم.
  • ان مستقبل البشرية مرهون باليهود وبما يحققونه من مطالب الآخرين.
  • التوظيف السياسي للمصطلحات والمفاهيم و التسميات الدينية كإسرائيل ويهودا باعتبارهما رابطة إلهية.
  • التناقض التام مع المعطيات والحقائق التاريخية التي تؤكد بان اصل تسمية اليهود مشتق من يهوذا، وليس العكس. إذ أن قورش الفارسي هو من سماهم باليهود وديانتهم باليهودية.

2: 2: نظرية الوعد الإلهي بالعودة إلى أرض الميعاد:

ان هذه “النظرية” المستندة إلى مجموعة من المزاعم والأساطير التوراتية تعتبر بالنسبة لرواد اليهود الصهيونية مثل (زفي كاليشر) و(موسى هيس) و(ثيودور هرتسل) أمراً ربانياً لا بد من الانصياع إليه دونما قيد أو شرط. وان زوال ظاهرة اللاسامية،أي معاداة اليهود، مرتبط بامتلاكهم لوطن قومي خاص بهم. لذا فان هجرة اليهود إلى فلسطين والى القدس تحديدا وضرورة عدم الاندماج في المجتمعات الأم لليهود جميعا أمور تندرج تحت إطار هذا الأمر الرباني.

ولكن ماذا عن الإدراك الصهيوني لطبيعة الصراع وطبيعة هذا الكيان وحدوده ومستقبله بعد أن تم زرع الكيان الصهيوني في فلسطين قلب الوطن العربي؟

هذا السؤال يجيب عنه الجيل الجديد من منظري اليهودية الصهيونية. إذ كتب سامي سموحا في دراسة له حول طبيعة نظام الحكم في إسرائيل ودوره التاريخي قائلا: “يفهم نظام الحكم في إسرائيل دوره كمؤسس لدولة شعب ويضع لنفسه الأهداف والتحديات، ويجند المواطنين للتطوع في تأدية المهام الوطنية فالمجتمع الإسرائيلي هو مجتمع في حالة تكوين، إذ أن تطوره لم يتم بشكل طبيعي، إنما تأثر بتيارات فكرية ورؤيا وتخطيط. فهو ما زال مجتمعا يقوم على العقيدة.. وما زالت إسرائيل مجتمعا في طور التكوين، ينبغي أن يبقى النظام أيديولوجيا”.

يفهم مما تقدم أن”إسرائيل التوراتية” الممتدة من الفرات إلى النيل لم تقم بعد. لذا لا بد من بقاء نظامها نظاما توراتياً، لكي تتمكن إسرائيل من الانتقال تدريجياً من مرحلة التكوين إلى مرحلة الاكتمال بتأسيس الدولة اليهودية على “كامل ترابها التوراتي”، أي “كامل ارض الميعاد”. لذا فاليهودية الصهيونية لا تتحدث عن إقامة إسرائيل، بل عن إعادة بنائها باعتبارها حقيقة تاريخية غاب وجودها طويلا لأسباب خارجة عن إرادتها.

وفي هذا السياق يميز الباحثون بين أربعة تصورات لدى الحركة الصهيونية بشان خارطة إسرائيل أو حدود دولتها المنشودة:

  • إسرائيل المستندة إلى قرار هيئة المم المتحدة رقم 181/1947م القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وأخرى يهودية ووضع خاص بالقدس.
  • إسرائيل الشاملة لكل الأراضي الفلسطينية.
  • إسرائيل التاريخية والشاملة لضفتي نهر الردن، الشرقية والغربية، أي فلسطين والأردن معا.
  • إسرائيل بصفتها التوراتية أي ارض إسرائيل من الفرات إلى النيل، وهو الشعار الذي لا يزال يعلو باب الكنيست الإسرائيلي.

أن إسرائيل بوضعها القائم منذ حرب حزيران عام 1967م تؤكد بان الحركة الصهيونية قد تمكنت حتى الآن من تحقيق المرحلتين الأساسيتين من تصوراتها بشان حدود الدولة اليهودية المنشودة. وهي بانتظار تحقق ما تبقى من مخططاتها. أما بانسحاب إسرائيل من سيناء مقابل صلح منفرد مع جمهورية مصر العربية قد تكون فتحت ثغرة في جدار بنائها العقائدي وكشفت قليلا عن” سترها السياسي” عندما اضطرتها الظروف الإقليمية والدولية للانسحاب من سيناء عام 1956م. أو عندما خضعت لمغريات أمنية وسياسية لا تقاوم، كما فعلت في انسحابها الثاني من صحراء سيناء الذي تم في أعقاب توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر برعاية أمريكية في 26 / 3/ 1979 استمر لأكثر من خمس سنوات.

إلا أن هذا السلوك السياسي، وان بدا للبعض بأنه تخل عن فكرة “الدولة اليهودية” بمفهومها التوراتي، ليس الا مجرد تغيير شكلي تكتيكي يتعلق بالتحول جزئيا ومرحليا من المنهج العسكري إلى المنهج الاقتصادي. فهو إذن لا يمس جوهر العقيدة اليهودية الصهيونية أو استراتيجيتها. هذا التحول الجزئي والمرحلي في المنهج بدا واضحا في معرض رد شيمون بيرس على سؤال وجهه إليه أحد الصحفيين على هامش المؤتمر الاقتصادي المنعقد في عمان في أكتوبر عام 1995م، عما إذا كانت إسرائيل بحضورها المؤتمر الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد تخلت عن فكرة “إسرائيل الكبرى” قائلا: “بالاقتصاد والتكنولوجيا نستطيع أن نصنع دولة اعظم”.

إذن إسرائيل لم تتخل عن كيانها التوراتي. لا بل إن المتغيرات الإقليمية والدولية التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة بانتصار الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وانهيار الاتحاد السوفياتي وتدمير العراق التي قادت إلى اختلال موازين القوى كليا لصالح إسرائيل جعلها تغدو اكثر مرونة ومستعدة لأسباب تكتيكية آنية لانتهاج سياسات أخرى مضافة وليست بديلة لسياسة القوة العسكرية في تعاملها مع الصراع الإسرائيلي العربي وبخاصة في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي.

3:2: ثنائية العقيدة اليهودية الصهيونية:

يزعم رواد اليهودية الصهيونية وقادة حركتها العنصرية بأن اليهودية دين وقومية، دين وجنس. إذ يقول نعوم سوكولوف في معرض إنكاره على يهود أوروبا جنسية الأوطان التي يعيشون فيها: “يزعم بعض السخفاء من أبناء قومنا انهم إنجليز و ألمان أو ما شابه ذلك بحكم إقامتهم في بلاد تلك الأقوام. مع أن إقامتهم في بلاد معينة أو انتسابهم لجنسية معينة لا يخولهم قطعا أن يصبحوا من مواطنيها طالما (انهم) يعتنقون الموسوية المبنية على العنصرية والقومية المتطرفة التي لا تقبل أي انصهار أو اندماج. ولذا فهم يهود قبل كل شيء وسيظلون يهودا مهما زعموا وحيثما كانوا”. أما ثيودور هرتسل فقد دعا إلى تدريس اليهودية في إطار السياسة الدولية باعتبارها قضية قومية، حيث يقول:

“ليست القضية اليهودية قضية اجتماعية أو أدبية مثلما يدعي بعض الأغبياء، بل هي قضية قومية واضحة يجب الاعتراف بها، وان تدرس على صعيد السياسة الدولية كقضية مسلم بها”.

“نحن يهود، ولنا ملء الحق في أن نكون كذلك، وعلينا إن نصر على إعلانه الآن اكثر من أي يوم مضى، نقول بكل فخر واعتزاز إننا أمة رغم انف العالم”. وكذا فعل الحاخام موريس جوزيف عندما خاطب الرأي العام الفرنسي بطريقة أثارت انزعاج بعض الأوساط الفرنسية بقوله:

“لكي يتمكن الإنسان من تجاهل القومية اليهودية، ينبغي له أولا أن ينكر وجود اليهود على الأرض”.

ويرد الزعيم الصهيوني الفرنسي ليون سيمون على من ينظر إلى اليهودية على أنها دين فحسب قائلا:

“أن الزعم بكون اليهودية عبارة عن فكرة دينية فقط هو زعم باطل بقدر الزعم بعدم وجود الكاثوليكية والبروتستانتية في هذا العالم”.

أن كلمة اليهودية التي تعني الديانة الخاصة بهم، مأخوذة من التعريف القومي. ولهذا إن كل يهودي حتى الملحد او المرتد هو يهودي مثل غيره قبل كل شيء آخر.

لا بل أن التعصب لليهودية كقومية جعل مفكريها يتغنون بالخصائص الجسمانية لليهود، حيث يقول الكاتب اليهودي، ج. ب شتيرن في هذا السياق:

“… إن مظهرنا وتكويننا الجسماني والأنف الأقني الذي نتميز به دون سائر الناس، هي أدلة كافية لإثبات كوننا من عنصر آخر. ولقد برهنا عبر القرون رغم تشردنا على أننا اكثر الأمم تمسكا بوحدتنا القومية و أكثرها تعصبا لعنصرها الخاص”.

أما السياسي جيرالد سومان فقد دعا في صحيفة العالم اليهودي الإنجليزية إلى ضرورة الإفصاح صراحة عن اليهودية كقومية قائلا:

“نحن لا يمكن أن نكون انجليز، لاننا ننتسب لعنصر خاص، وعقليتنا اليهودية تختلف عن عقليتهم، كفانا خداعا لنعلن صراحة أننا يهود قبل كل شيء”.

ويبلغ الشطط العنصري بمنظري اليهودية الصهيونية حده من خلال ما كتبته صحيفة العالم اليهودي بتاريخ 14/10/1924م في هذا السياق قائلة:

“اليهودي يظل يهوديا ولو اعتنق النصرانية، تماما مثل الإنجليزي الذي يعتنق الموسوية فهو يظل إنجليزيا دائما، إن الصفات التي يمتلكها اليهود لا علاقة لها بالشريعة الموسوية، لأنها والشريعة من صميم مشتقات القومية، ولهذا لا معدى من الاعتراف بان اليهودي الملحد أو الحر التفكير، هو يهودي بقدر اكبر حاخام يهودي”.

وهنا يظهر أن الرابطة التي تربط اليهود بسيدنا موسى هي رابطة سلوكية مفترضة ومستوحاة قسراً وزوراً وبهتاناً من سلوك أنبياء “بني إسرائيل” المزعوم.

ويعارض مفكرو اليهودية الصهيونية أن يكون مسقط الرأس الفيصل في تحديد قومية الناس، حيث كتبت نفس الصحيفة بتاريخ 22/9/1915م في هذا السياق تقول:

“ليس من المنطق أن نسمي الهندي الذي ولد في بريطانيا من أبوين هنديين إنجليزياً لأنه ولد فيها، ولذا لا يمكن أن نزعم بان اليهودي الذي يولد في إنجلترا هو إنجليزي، فهو يهودي وسيظل إلى الأبد كذلك”.

وفي دعوة صريحة لكشف القناع اليهودي لتظهر اليهودية الصهيونية على حقيقتها، وان فلسطين هي وطن اليهود كتب اليهودي في نفس الصحيفة في عددها الصادر بتاريخ 1/1/1950م يقول:

“لننزع أقنعتنا، ولنقف موقف أسد يهوذا، ولنغير أساليبنا القديمة، ولنرمي بعيدا بجنسياتنا المزيفة، ولنعلن للعالم أننا يهود لا وطن لنا سوى فلسطين ولن نعترف بوطن سواها”.

وفي 15/5/1980م، كتبت صحيفة دنيا اليهود الإسرائيليين تقول: “يزعم بعض المغفلين ان الشريعة اليهودية ليست سوى رباط ديني مع العلم إنها كانت دائما وأبدا رباطا قوميا وعنصريا محضا، ولهذا تطالب اليهودية بحقوقها القومية التي تنبع من أصالتها العنصرية، إن يهود روسيا أو فرنسا أو إنجلترا ليسوا روساً إو فرنسيين أو انجليز، بل هم يهود، يهود فحسب”.

4:2: الانطوائية ومقاومة الاندماج:

ينظر مفكرو الحركة الصهيونية إلى الانطوائية وعدم الاندماج كأمر رباني مستوحى من سلوك أنبياء “بني إسرائيل” الذين يدعون الانتماء إليهم. وإذا كان سيدنا إبراهيم عليه السلام قد اعتزل قومه قبل هجرته إلى “ارض كنعان” خلال وجوده في فلسطين للحفاظ على وحدانية الأيمان بالله وعدم الشرك به بالامتناع عن مخالطة قومه والأقوام الأخرى من عبدة الأصنام، فان منظري اليهودية الصهيونية لم يتمسكوا بذلك بدوافع دينية، و إنما لأسباب سياسية محضة، وذلك للحيلولة دون ذوبان اليهود في المجتمعات الأم من جهة، ودون تعرف مجتمعاتهم وصناع القرار فيها على حقيقة أهداف اليهودية الصهيونية ومخططاتها من جهة أخرى. فقد جاء في الملفات اليهودية تاريخ 24/3/1864م، ما نصه:

“إنها معجزة، هذه الأمة التي تدعي اليهودية والتي شردت في كافة أنحاء العالم منذ ألفي عام، لأنها ظلت تحتفظ بوحدتها وكيانها دون أن تنصهر في الآخرين، وذلك بفضل تمسك أفرادها بتقاليدهم وعنصريتهم ومذهبهم”.

أما الصحيفة اليهودية Israel Massanger الصادرة في شانغهاي بتاريخ 7/2/1930م فقد شددت على أن سر بقاء اليهود يعود إلى عدم قابليتهم للامتزاج باحتفاظهم بنقائهم العرقي حيث كتبت تقول:

“إن اليهودية والقومية يسيران جنبا إلى جنب لأنهما تشكلان وحدة كاملة، ولهذا ظل اليهود متماسكين رغم تشردهم. إن العرق اليهودي هو عرق أصيل لا يقبل الامتزاج ، وتقاليده متينة لم تتصدع قط، وكل يهودي يتمسك بعضويته في صفوف الأمة مهما كانت نزعته، وهنا يكمن سر بقاء هذا الشعب وسر استحالة انهزامه رغم كل ما تألبت عليه القوى”.

وكتب لودفيك ليفسون في مؤلفة إسرائيل مؤكدا عدم قابلية اليهود للاندماج يقول:

“اليهودي يظل يهودياً، وانصهاره أو انسجامه مع الغير هو من الأمور المستحيلة التحقيق، لان اليهودي لا يقبل عن تقاليده بديلا مهما كان الأمر، يظل متمسكا بها، لأنه يهودي فحسب، إن هذه الحقيقة الراهنة اكتشفها الجميع ولم يعد بعد إمكان لإنكارها، وليس للأمر مخرج آخر سوى الاعتراف بوجودنا، والتسليم بكياننا”.

أما صحيفة Jewish Chronicle فقد أبرزت أهمية الحفاظ على العرق والعنصر فعلى اليهود أن يظلوا حريصين عليهما”.

لذا فلا غرابة أبدا أن يتآمر زعماء الحركة الصهيونية في ألمانيا النازية مع هتلر على يهود ألمانيا باستعمال شتى أساليب القمع والإرهاب والتعذيب لحملهم على مغادرة البلاد نحو فلسطين. وكذلك الإيعاز لعملائهم اليهود في العراق ومصر القيام بعمليات تفجير في الأحياء اليهودية بدفعهم قسرا للهجرة إلى فلسطين. وتآمرهم مع نظام جعفر النميري في السودان لتهريب يهود الفلاشا من الحبشة إلى فلسطين المحتلة.

5:2: عدم مشروعية الشعور والولاء الوطنيين:

يؤمن رواد اليهودية الصهيونية وزعماؤها اللاحقون بعدم مشروعية ولاء، وانتماء اليهود لغير الحركة الصهيونية ولفكرة الوطن القومي المنشود في فلسطين باعتبار أن أي شعور لليهود تجاه الأوطان التي تحتضنهم أمرا متناقضا مع العقيدة اليهودية ويشكل عائقا وحائلا دون تحقيق “إسرائيل التوراتية”.

فقد كتب صحيفة البريد اليهودي في عددها الصادر بتاريخ 17/1/1942م، تقول:

“نعم لقد قبلنا زي ولغة البلاد التي أقمنا فيها، ولكن لن نقبل قطعا أن نكون جزء من أهلها”. بمعنى أن اليهود في مجتمعاتهم الأصلية معنيون بالمنافع، أما المواطنة وما يترتب عليها من التزامات وواجبات فلا تعنيهم في شيء. لذا فالانتماء لغير إسرائيل حيثما كان اليهودي وروح المواطنة لغيرها لا مكان لهما في القاموس اليهودي الصهيوني.

6:2: الشتات نعمة ربانية:

يعتبر زعماء اليهودية الصهيونية الشتات نعمة ربانية لا بد لهم من البحث في كيفية تحويلها من نقطة ضعف إلى نقطة قوة وذلك باستخدامها باتجاهين:

  • التأثير في أوساط الرأي العام في المجتمعات الأم ومن ثم في دوائر صنع القرار السياسي بما يخدم المصالح الصهيونية ويحققها، وذلك من خلال السيطرة على رؤوس الأموال ووسائل الأعلام، والاتصال في البلدان التي يقيمون فيها والتغلغل في الأحزاب السياسية والسيطرة عليها وعلى نقابات أصحاب العمل والعمال فيها.
  • تامين استمرار هجرة فقراء اليهود من بلدانهم الأصلية باتجاه فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني وبعده. وما الهجرة اليهودية العالمية من الاتحاد السوفياتي آنذاك ومن دول أوروبا الشرقية وبخاصة بعد تسلم ميخائيل غورباتشوف لمقاليد الحكم فيه إلا خير شاهد على ذلك.

7:2: عقدة الخوف الدائم من غير اليهود:

ينظر زعماء اليهودية الصهيونية بحكم عقدة الخوف المصطنعة وعقلية القلعة المستحكمة في أذهانهم إلى كل من هو غير يهودي على انه نافي للذات اليهودية ويشكل تهديدا لأمن اليهود في الشتات وفي فلسطين المحتلة. وبذا فانهم يوظفونها سياسيا ويستخدمونها أداة لتحقيق دولتهم المنشودة بحدودها التوراتية.

8:2: مشروعية الوسيلة:

يرى زعماء اليهود الصهيونية بان الوسيلة أياً كانت تستمد مشروعيتها من دورها في بناء “الدولة اليهودية” باعتبارها سلوكا مستمداً من أنبياء إسرائيل. لذا فليس غريباً ان لا يتركوا من سلوك غير سوي إلا ونسبوه إلى أنبياء بني إسرائيل.

فالربا، والزنا، وحروب الإبادة، والعنف، والإرهاب، والإنطوائية، جميعها سلوكيات نبوية حسب زعمهم. ومن هنا تكتسب شرعيتها، وذلك بهدف إضفاء الشرعية على سياستهم العنصرية تجاه كل من هو غير يهودي وبخاصة تجاه الفلسطينيين والعرب.

وقد سجل القرآن الكريم لهم ذلك في الآية 75 من سورة آل عمران إذ قال تعال (…ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، ومثل هذا الاستقراء لسلوك أنبياء بني إسرائيل يدخل في الإطار الافتراضي والقسري تمهيدا لتبرير سلوك اليهودية الصهيونية وكيانها العنصري إسرائيل.

9:2: الوضوح في الهدف والتدرج في تحقيقه:

إن أهم ما يميز الإستراتيجية الصهيونية كما صممها زعماؤها هو وضوح الهدف التام والتدرج في التنفيذ في إطار المخطط الشمولي. فهدف اليهودية الصهيونية المركزي المتمثل بإقامة “الدولة اليهودية” بمفهومها التوراتي، أي إقامة إسرائيل الكبرى، لم يحل دون سلوكهم منهج تدرجي سعيا لتحقيق هذا الهدف و إعادة النظر في آليات تحقيق ذلك الهدف تبعا للمتغيرات الإقليمية والدولية.

10:2: محورية القدس في العقيدة والإستراتيجية الصهيونيتين:

تعد القدس في نظر رواد اليهودية الصهيونية، وزعماء حركتها العنصرية، وقادة كيانها “إسرائيل” محور البناء العقائدي الصهيوني والإستراتيجية الصهيونية على حد سواء. ويظهر هذا الدور المحوري للقدس جليا من خلال تتبع مراحل التطبيق العملي للاستراتيجية الصهيونية . وذلك بدء بمرحلة التبشير والدعوة، فالهجرة والاستيطان، وتركيز البناء في الجهة الغربية من القدس، فالاستيلاء على القدس الغربية أبان حرب 1948م، فإعلانها عاصمة لدول إسرائيل، فالاستيلاء على المدينة بالكامل، وتوحيد شطريها، وتهويدها بشكل منظم، وانتهاء بإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.

ومع ذلك فان زعماء الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم ديفيد بن غوريون كانوا على استعداد للتخلي عن القدس إذا كان ذلك من شانه أن يخدم إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. هذا يعني أن تشبثهم بالقدس أو تخليهم عنها ارتبط ارتباطا وثيقاً بمستلزمات إقامة الكيان الصهيوني. الأمر الذي يوضح الطبيعة الإنشائية للقدس في التفكير والمخطط الصهيونيين، وكذلك الطبيعة الوقائية. أما دورها التبشيري كعامل لتجميع اليهود على أساس إن اليهود دين وقومية نحو هدف مركزي فيتمثل في “بعث الدولة اليهودية” من خلال منهج براغماتي متدرج بدء برفض الاندماج في المجتمعات الأم. واتضح هذا المنهج تماما من خلال مرحلة التبشير والدعوة ومرحلة التنظير والعمل السياسي. وهنا يظهر التوظيف السياسي للدين وللمكانة الروحية للقدس، إذ كانت اليهودية الصهيونية رائدة في مجال استغلال الدين لأغراض سياسية.