القدس في الاستراتيجية اليهودية الصهيونية – الإسرائيلية

1- تمهيد

من الطبيعي أن تكون الإستراتيجية اليهودية الصهيونية واستراتيجية كيانها إسرائيل متناغمتين تماماً ومتطابقتين كلياً مع منطلقاتها الروحية والفكرية وأهدافهما السياسية، أهمها “إعادة بناء الدولة اليهودية وعاصمتها القدس”، وانتزاع اعتراف دول العالم بضمانة دولية مؤسسة على القانون الدولي، ومواثيق مؤسسات الشرعية الدولية القائمة آنذاك. لذا فان الإستراتيجية اليهودية الصهيونية في سعيها لإقامة كيانها إسرائيل قد مرت بمراحل عديدة لعبت القدس دوراً محورياً في إنجاز مهام كل مرحلة وبخاصة تلك التي شهدت ولادة الكيان الصهيوني كنواة للدولة اليهودية التوراتية.

وقبل الخوض في الإستراتيجية اليهودية الصهيونية-الإسرائيلية عبر مراحلها المختلفة تجدر الإشارة إلى جملة من العوامل كان لها كبير الأثر في تمكين الحركة الصهيونية من إقامة كيانها الصهيوني إسرائيل في فلسطين بعد مرور خمسين عاماً من انعقاد مؤتمرها الصهيوني الأول في بازل / سويسرا عام 1897م. ويمكن تلخيص تلك العوامل التي أسهمت في بناء الدولة اليهودية” بالأتي:

  • وضوح الهدف المتمثل ببعث “الدولة اليهودية” على مساحة كافية من فلسطين التي كانت من خلال القدس تشكل قوة جذب كبيرة ليهود الشتات.
  • وحدة الزعامة الصهيونية مما حقق لها قدراً كبيراً من المناورة والمرونة سواء لجهة التخطيط الإستراتيجي، أو لجهة التنفيذ العملي وإدارة معاركها مكاناً وزماناً بكفاءة عالية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
  • مشروعية الوسيلة أياً كانت مستندة في ذلك إلى قراءتها الافتراضية القسرية لسيرة وسلوك أنبياء بني إسرائيل.
  • مرحلية التطبيق بأسلوب عملي متدرج.
  • مركزية القدس في إنجاز مهام كل مرحلة من مراحل تنفيذ الإستراتيجية الصهيونية كأداة حاسمة في إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين وتثبيت دعائمه والحيلولة دون انهياره أو تلاشيه مستقبلاً.
  • ارتباط “رسالة اليهودية العالمية” بالحضارة الأوروبية باعتبارها المكمل لهذه الحضارة وصورتها العملية في الشرق بالرغم من تشديد الزعامة الصهيونية وبخاصة هرتسل في مؤلف “الدولة اليهودية” على مبدأ الاصطفاء والتناقض مع نزعة أوروبا اللاسامية، أي المعادية لليهود.
  • التركيز على اجتذاب البروليتاريا اليهودية أي فقراء اليهود من مزارعين وعمال حرفيين وصناعيين ومثقفين يهود بحكم ما ستوفره الدولة المستقبلية من فرص عيش افضل وحياة مستقرة وآمنة ونجاة لهم من الملاحقة والاضطهاد والعداء. فوجود هؤلاء على ارض فلسطين كقوة طلائعية يشكل يقيناً قوة دفع هائلة باتجاه إقامة “الدولة اليهودية”.
  • إنشاء مؤسسات ذات طبيعة “قومية” لتكون اذرعاً داخلية وخارجية للحركة الصهيونية مثل: الوكالة اليهودية والصندوق القومي وغيرهما من المؤسسات يهودية.
  • المزاوجة الفعالة، والإبداعية، بين جميع عناصر الإستراتيجية الصهيونية؟

الآن ما المراحل التي مرت بها الإستراتيجية الصهيونية؟ وما مكانة القدس ودورها في تحقيق أهداف كل مرحلة من هذه المراحل في إطار الهدف الشمولي المحوري وهو إقامة “الدولة اليهودية”؟

2: مراحل الإستراتيجية اليهودية الصهيونية

مرت الإستراتيجية اليهودية الصهيونية بعدة مراحل يمكن تلخيصها على النحو الأتي:

1:2 مرحلة التبشير الديني- التراثي:

لعبت القدس دوراً محورياً في إنجاز مهام هذه المرحلة بما جعل منها محور جذب لقطبي الصهيونية: الاتجاه الديني الذي ينظر إلى القدس من منطلق ديني لا سياسي باعتبارها مركز دولة المسيح المنتظرة، والاتجاه السياسي العلماني.

وكان من ابرز ممثلي الاتجاه الديني التراثي المنادي بالاندماج بالمجتمعات الأصلية اليهودي الألماني مندلسون (1729- 1786م) الذي لم ير في اليهودية سوى عقيدة دينية يهتدي بها اليهودي في حياته الخاصة مع التأكيد على “ضرورة اندماجه في محيطه الشعبي ثقافة وعادات وتقاليد ليدع عنه الاضطهاد”.

2: 2: مرحلة التنظير والأعداد السياسي:

إذا كانت القدس قد لعبت دوراً حاسماً في تجميع يهود الشتات حول فكرة الأحياء الديني والتراثي لليهودية، فإنها قد لعبت دوراً اكثر خطورة في مرحلة التنظير والاعداد السياسي لبعث “الدولة اليهودية” في فلسطين. ولقد تأسس التنظير والاعداد السياسيين وتركزاً على المزاعم الآتية:

  • ضرورة الايمان بان اليهودية ليست مجرد رابطة دينية فحسب، بل هي فوق ذلك وقبله رابطة قومية، فاليهود كما يزعمون جنس تجمعه لغة وعادات وتقاليد وقيم سلوكية مشتركة وتاريخ مشترك. وهم بذلك يخالفون كل نظريات علم الأجناس (الانثربولوجيا) باعتبارهم اليهودية جنس ودين في آن معا.
  • ضرورة الايمان بأن فلسطين هي “ارض الميعاد”، “ارض إسرائيل” التي لا بد لليهود من العودة إليها وإعادة بناء دولتهم فيها. مرة أخرى يلاحظ المرء التوظيف السياسي للمعتقدات والأساطير الدينية.
  • الهجرة إلى فلسطين وبخاصة “الأماكن المقدسة” فيها: القدس ، وطبريا وصفد، والخليل شرط لا غنى عنه للحفاظ على “الجنس اليهودي”، و إحياء “القومية اليهودية”.

لذا ترى اليهودية الصهيونية وجوب أن تبقى القدس مركز جذب واستقطاب لكل المؤمنين بقدسيتها من اليهود وبخاصة الاتجاه العلماني الذي يخطط لاستغلال العامل الديني كمحرك لتجميع اكبر قدر ممكن من يهود الشتات حول الأماكن المقدسة بنظرهم وهي القدس والخليل وصفد وطبريا كنواة للدولة الصهيونية اليهودية.

وكان من ابرز المنظرين لليهودية كقومية ودين، كجنس ودين، والداعين إلى ضرورة الهجرة إلى فلسطين و تحديدا إلى الأماكن المقدسة بالنسبة لليهود زفي كاليشر (1785-1874م). فقد أعلن عن رفضه المطلق لدعوة اليهود للاندماج في مجتمعاتهم مشدداً في مؤلفه “البحث عن صهيون” على انه ما “من سبيل إلى حل المشكلة اليهودية إلا عن طريق تهجير اليهود إلى فلسطين أو غيرها من البلدان “. فمعاداة السامية لا يمكن أن تزول من وجهة نظره ما لم يملك اليهود وطناً قومياً خاصاً بهم. وهنا يبرز مجدداً التوظيف السياسي للأساطير التوراتية.

لذا ناشد كاليشر أغنياء اليهود العمل على إنشاء جمعيات استعمارية مشجعة للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإقامة المستوطنات الزراعية فيها. وقد لاقت دعوته استجابة ورواجاً لدى هؤلاء. إذ تم إنشاء “جمعية استعمار ارض إسرائيل” في برلين عام 1864م، وقيام جمعية “الأليانس” بإنشاء أول مستعمرة زراعية يهودية في فلسطين بالقرب من يافا.

أما “موسى هيس”، بكتابه “روما والقدس”، و”ليوبنسكر” من خلال نشرة التحرير الذاتي التي كانت تصدر بالغة الألمانية الذي مكنه حماسه واندفاعه في العمل لإقامة الدولة اليهودية من الارتقاء إلى قمة الهرم في حركة “محبي صهيون”، كانا بحق رائدي التحول بالمشكلة اليهودية من مستواها الديني إلى مستواها السياسي. فقد مهدا بطروحاتهما ومن خلال نشاط الأخير التنظيمي الطريق أمام ثيودور هرتسل ليصبح فيما بعد وبحق الأب الروحي للحركة الصهيونية وزعيمها السياسي بلا منازع.

3:2: مرحلة الانطلاق نحو الدولة اليهودية

وإذا كان موسى “هيس” وليوبنسكر قد حملا عبء مرحلة التنظير، والاعداد السياسي للدولة اليهودية، فان ثيودور هرتسل كان له الفضل الحاسم في التحول بالأفكار اليهودية الصهيونية من أبراجها العاجية إلى ارض الواقع؛ من التنظير وميادين الاعداد إلى ساحة العمل اليومي. اذ شكل “مؤتمر بازل” 1897 نقطة البداية في السياسة العملية نحو إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين مستنداً في ذلك إلى طروحاته التي تضمنها كتابه “الدولة اليهودية” والمؤسس على الأساطير التوراتية، والروايات التلمودية وبروتوكولات حكماء صهيون.

ففي هذا المؤتمر تم تحديد معالم الدولة الصهيونية ومكانها وآليات تحقيقها ووظائفها المرحلية والإستراتيجية. وكان مؤتمر بازل قد حدد الطريق إلى الدولة اليهودية في فلسطين باعتماد آليات عمل رئيسية ثلاث هي:

  • تنظيم الحركة الصهيونية العالمية.
  • تخطيط حركة الاستعمار الصهيونية في فلسطين وتمويلها والأشراف عليها.
  • إجراء الاتصالات والمفاوضات السياسية لتامين الدعم السياسي العالمي لتحقيق الأهداف.

ولكن ماذا عن دور القدس في هذه المرحلة؟

إن دور القدس في هذه المرحلة يتضح من خلال استخدام زعماء الحركة الصهيونية للقدس كأداة لتحقيق “الدولة اليهودية” باعتبارها:

  • قوة جذب للمهاجرين اليهود وبخاصة يهود روسيا القيصرية.
  • مركز الاستقطاب لمهاجرين الجدد عبر مراحل الاستيطان غير المنظم، والاستيطان المنظم، وتأسيس الوطن القومي لليهود.

4:2: مرحلة ممارسة الإرهاب والعنف:

إذا كانت المراحل الثلاث السابقة قد اتسمت بطابعها السلبي، فان هذه المرحلة قد تميزت بالعنف والإرهاب كأسلوب سلوكي “مشروع” باعتباره إرثا دينيا ذا بعد رباني. فالعنف والإرهاب والإبادة وسائل مشروعة في العقيدة الصهيونية مستوحاة قسرا من التراث الديني المزعوم. ومما ساعد زعماء الصهيونية على انتهاج هذا الأسلوب الدموي اندلاع الحرب العالمية الثانية. فقد رأوا في المشاركة فيها فرصة عملية لا تعوض لاكتساب الخبرات العسكرية العملية تنظيما وممارسة. الأمر الذي لاقى استحسان بريطانيا العظمى بسبب حاجتها لأي دعم مهما صغر شأنه في مواجهة الجيوش العثمانية من جهة، ولتطابق مصالحها مستقبلا مع مصالح الحركة الصهيونية من جهة أخرى.

وبمجرد ان وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وتم تسريح المتطوعين اليهود من الجيش بادر قادة الحركة الصهيونية مثل ديفيد بن غوريون، وموشي ديان، ومناحيم بيجن، واسحاق شامير الى تنظيم أنفسهم في عصابات مسلحة مثل الهاجاناة والأرغون، والشتيرن التي سرعان ما حصلت على ترخيص، ودعم دولة الانتداب لتنشط في مجال الاستحواذ على الأرض العربية بقوة العنف والإرهاب، وهجرة عدد كبير من اليهود إلى فلسطين.

انتهت هذه المرحلة التي شهدت استصدار وعد بلفور 2/11/1917م، ووضع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني عام 1922م كوديعة صهيونية لحين استردادها بعد بناء النفس ومؤسسات الدولة اليهودية، بقرار التقسيم 181 الذي أصدرته الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة 29/11/1947م. ذلك القرار الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية وأخرى يهودية وكيان منفصل أي تدويلها، وقرار 194 القاضي بعودة اللاجئين وتعويض غير الراغبين منهم في العودة. وكانت هيئة الأمم المتحدة قد جعلت من قبول إسرائيل به شرطا لقبولها عضوا في هيئة الأمم المتحدة، الأمر الذي أذعنت له إسرائيل، ولكنها سرعان ما ضربت به عرض الحائط متنكرة لالتزامها بعد أن استنفذت أغراضها منه وضمنت اعتراف الأمم المتحدة بها.

5:2: مرحلة الحروب الكبيرة:

ليس غريبا أن يبدأ زعماء الكيان الصهيوني في حياتهم السياسية بحرب لم يدعوا فيها وسيلة من وسائل الخداع والتضليل إلا واستخدموها سواء مع العرب أو مع حلفائهم البريطانيين. فكانت حرب 1948ما التي انتهت بفضل “الهدنة الخدعة”، ودعم بريطانيا بنكبة العرب الأولى. ومما تجدر الإشارة إليه أيضا أن وتيرة الاستيطان قد ارتفعت بعد احتلال إسرائيل لكامل الضفة، وتوحيد شطري القدس بعد حرب الخامس من حزيران 1967م، الأمر الذي يتناقض كلية مع قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقدس التي تحظر على إسرائيل الإتيان بأي عمل من شأنه التغيير في البنية الحضارية والديموغرافية للمدينة المقدسة.

أما حرب أكتوبر 1973م، فكانت بمبادرة مصرية – سورية أثبتت على الرغم من طبيعتها التحريكية خطل النظرية العسكرية الصهيونية المستندة إلى استحالة هزيمة “إسرائيل” من جهة، وحملت إسرائيل وأمريكا على التفكير جديا في البحث عن سبل للخروج من المأزق الأمني الإسرائيلي من جهة أخرى. فكانت دبلوماسية الخطوة خطوة الكيسنجرية.

أما الحرب العدوانية الأخرى التي شنتها إسرائيل فكانت حرب بيروت عام 1982 التي انتهت بحصار بيروت، واحتلال جنوب لبنان ، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان بإشراف فرنسي انتهى بقيادتها إلى المنفى في تونس بينما توزعت قواعده على عدة منافي في الوطن العربي. وظلت الأمور على هذا الحال إلى أن اندلعت انتفاضة الحجارة في الأراضي العربية المحتلة عام 1987م ليتحول الجيش الذي لا يقهر إلى جيش عصابات يحارب أطفالاً. واستمرت هذه الانتفاضة حتى بدء مؤتمر مدريد. غير أن الانتفاضة لم تتوقف كليا إلا بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي.

6:2: مرحلة الاختراق السياسي:

بدأ الاختراق السياسي الإسرائيلي للجبهة العربية عملياً باتفاقات كامب ديفيد المصرية -الإسرائيلية الموقعة بتاريخ26/ 3/ 1979م التي خرجت بموجبها اكبر قوة عربية من ساحة الصراع الإسرائيلي – العربي.

أما الاختراق الثاني فكان في مؤتمر مدريد الذي انعقد في ظل ظروف ومتغيرات قومية وإقليمية ودولية جميعها لصالح الكيان الصهيوني بعد أن اختلت موازين القوى في أعقاب تدمير العراق اختلالا كاملا لصالح “إسرائيل”.

أما الاختراق الثالث فكان في أوسلو (غزة-أريحا أولاً).

وكان الاختراق الرابع في إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي الموقع في واشنطن بتاريخ 13/9/ 1993م الذي تضمن الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، واجل مسألة القدس وقضايا مهمة أخرى إلى مفاوضات الوضع النهائي التي كان من المفروض أن تبدأ في أيار من عام 1997م.

وبذلك يكون الباب قد انفتح على مصراعيه أمام إسرائيل لتستكمل تهويد القدس، وتجبر الطرف الفلسطيني على الإذعان للأمر الواقع، أي القبول بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.