فعالية أي تنظيم بما في ذلك منظمة المؤتمر الاسلامي محكومة بالمبادئ التي قام على أساسها هذا التنظيم من جهة، وبالأهداف التي اختطها لنفسه من جهة ثانية، وباستراتيجية وآليات التنفيذ المحققة لهذه الأهداف من جهة أخرى. وإذا ما استعرض المرء المبادئ والأهداف الحاكمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، سرعان ما يدرك عظمة هذه المبادئ والأهداف المنصبة على رفعة العالم الإسلامي وتحرير المغتصب من أراضيه لا بالسياسة فحسب، بل في الجهاد إن اقتضى الأمر ذلك باعتباره ذروة سنام الإسلام كما وصفه سيد البشرية محمد صلوات الله وسلامه عليه.

ولكن المبادئ والأهداف المعلنة لمنظمة المؤتمر الاسلامي شيء، والتجسيد العملي لهذه المبادئ سعياً لتحقيق الأهداف المرتبطة بها شيء آخر، مع الإدراك التام لحقيقة أن لا تكون المبادئ عائقاً دون تحققها على أرض الواقع، في نفس الوقت الذي لا تكون فيه السياسات العملية إلغاءً للمبادئ التي قامت على أساسها منظمة المؤتمر الإسلامي.

وحتى لا يستنفذ المرء جهده في التنظير عليه ان يلقي نظرة نقدية فاحصة على توصيات وقرارات مؤتمرات القمم الإسلامية ليتعرف على:

  1. مدى انسجام هذه القرارات والتوصيات التي هي بمثابة أهداف منظمة المؤتمر الإسلامي مع المبادئ التى ارتكزت عليها في نشأتها وكانت على الدوام مقدمة للأهداف أو ديباجة لها.
  2. المتحقق من هذه الأهداف.
  3. مدى توافقها مع قرارات الشرعية الدولية، وقرارات الشرعية العربية، وطبيعة هذا التوافق، وما إذا كان ذلك يدخل في إطار التبعية للشرعيتين الدولية والعربية، أو أنه الطريق الأكثر أماناً وسلامة وتحاشياً للصدام مع مركز الشرعية الدولية؟
  4. مدى استجابتها للمبادئ والأهداف التي قامت عليها منظمة المؤتمر الإسلامي وسعت إلى تحقيقها، أو انها مجرد ردود فعل عابرة مخصصة بالدرجة الأساس للاستهلاك المحلي وامتصاص النقمة الشعبية في الشارع العربي والإسلامي وللحفظ في طيات الملفات والأدراج؟

أجل إن دراسة نقدية موضوعية لقرارات الشرعية الإسلامية، لقرارات منظمة المؤتمر الإسلامي لا بد أن تفضي إلى الاستنتاجات الآتية:-

    1. الطبيعة الإنشائية لقرارات الشرعية الإسلامية. فهي في الواقع لا تعدو كونها مجرد إعلان نوايا.
    2. تمحورها حول صيغ “المناشدة”، و”المطالبة”، و”الإدانة” و”الدعوة”، و”الشجب”، و”الاستنكار” 00الخ من صيغ الاحتجاجات اللفظية، الأمر الذي يظهر مدى العجز الذي تعاني منه منظمة المؤتمر الإسلامي.
    3. الطبيعة الدعائية لقرارات الشرعية الإسلامية شأنها في ذلك شأن قرارات الشرعية العربية والدولية. فهي موجهة بالدرجة الأساس إلى الرأي العام العربي بهدف امتصاص نقمة الشارع العربي والإسلامي وتطويق ردود فعله غير المستحبة لحكومات دول العالم العربي والإسلامي وتفريغه من شحنات الغضب التي تعتمله.
    4. افتقارها لآليات التنفيذ، الأمر الذي يعزز الرأي القائل بأنها “قرارات حبر على ورق” والتي لا تحسب لها اسرائيل أي حساب ولا يأخذها الرأي العام على محمل الجد، طالما أنها لم تقترن بسياسة عملية وآليات تنفيذ مدعومة بما يمتلكه العالم العربي والإسلامي من عناصر قوة بشرية ومادية وروحية.
    5. تبعية الشرعية الإسلامية للشرعية الدولية باعتبارها المرجعية السياسية لها ولتوأمها الشرعية العربية. فقررات الشرعيتين الإسلامية والعربية تكاد تكون فيما عدا بعض الاستثناءات العكسية التي أملتها الظروف المحلية، ديمواغرافية وروحية نسخاً باهتة لقرارات الشرعية الدولية، منسجمة تماماً معها. ولا غرابة في ذلك أبداً. فموازين القوى المحلية والعربية والإقليمية والدولية مختلة بالكامل لصالح الكيان الصهيوني وحليفه الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية. إضافة إلى ذلك أن الشرعية الدولية هي الإطار المرجعي للشرعيتين العربية والإسلامية بحكم أقدميتها الزمنية. وعليه فالتبعية للشرعية الدولية تظل الطريق السالك والأقل كلفة مادياً وسياسياً للنظامين العربي والإسلامي.
    6. تبعية الشرعيتين العربية والإسلامية للشرعية الدولية توجهاً وسلوكاً سياسياً، وتذبذب قراراتهما بشأن الصراع الصهيوني – العربي تبعاً لتقلبات الشرعية الدولية. ولا يشذ عن ذلك قراراتهما الخاصة بالقدس تماشياً مع قرارات الشرعية الدولية التي شهدت صعوداً ونزولاً في مستواها تبعاً للمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية ولموازين القوى الفعلية الحاكمة للسلوك السياسي لاطراف الصراع. ففي عالم القطبية الثنائية مثلاً كانت مؤسسة النظام العربي ومنظمة المؤتمر الإسـلامي أكثر قدرة على التحرك والفعل السياسيين وكانت قراراتها بشأن الصراع الإسـرائيلي – العربي والقدس أكثر جرأة منها في عالم ما بعد الحرب الباردة، أو فيما عُرف بعالم القطبية الأحادية واستفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالإرادة والقرار الدوليين. ففي مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي الثالث المنعقد في جدة قرر المؤتمرون إعلان الجهاد سبيلاً لتحرير القدس وبقية الأراضي العربية المحتلة. إلا أنه يسود الاعتقاد لذى الكثير من الاوساط السياسية والاعلامية العربية والاسلامية بان زعماء الدول الاسلامية قد عادوا بفعل الضغط الأمريكي ليتخلوا عن ذلك في المؤتمر السادس المنعقد في داكار، خلافاً لما تقره العقيدة الاسلامية، مع انه قد جرى التأكيد على مبدأ الجهاد المنصوص عليه في اعلان مكة. لذا فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: لماذا اذن الاعتقاد السائد بتخلي القمة الاسلامية في مؤتمرها السادس عن الجهاد وسيلة لتحرير القدس وكل الاراضي العربية المحتلة، وكيف يمكن تفسير هذا التناقض بين النصوص والاعتقادات السياسية؟

يرى البعض أن السبب في هذا الاعتقاد عائدً إلى تماثل قرارات الشرعية الاسلامية مع قرارات الشرعيتيين الدولية والعربية وكلاهما لا مكانة فيهما للجهاد بعد ان وافقت الغالبية العظمى من الزعماء العرب على مشروع الملك فهد للسلام والذي عُرف بعد اقراره في قمة فاس بالمشروع العربي للسلام. وهذا التفسير يدخل في اطار الاستنتاج. لذا فهو لا يكفي للتدليل على الغاء الجهاد طالما ان قمة داكار قد اعادت التأكيد عليه. اذن فلا بد أن يكون هناك سبب وجيهاً آخر يفسر هذا الاعتقاد. وهذا السبب يراه البعض في تقرير الأمين العام بمنظمة المؤتمر الاسلامي آنذاك حول عمل “لجنة التفكير حول العالم الاسلامي والمتغيرات الجديدة على الساحة العالمية” الذي ظل طي الكتمان. والسبب في عدم نشره حسبما يرى البعض يعود إلى ان تقرير الأمين العام حول تقرير لجنة التفكير “المشار إليها أنفاً” قد نص على الغاء الجهاد، الأمر الذي يوجب ابقاءه سراً خوفاً من استفزاز الشارع الاسلامي.

  1. تبعية الشرعية الاسلامية للشرعية العربية وارتباطها بمعادلة موازين القوى الفاعلة في أعمال القمم الإسلامية. ففي السبعينات والثمانينات كانت قرارات الشرعية العربية أرفع مستوى وأكثر جرأة منها في العقد الأخير، الأمر الذي انعكس سلباً على قرارات منظمة المؤتمر الإسلامي فيما بعد، ربما بسبب تراجع هامش المناورة لديها والتي باتت تفتقر إليها في العالم الأحادي القطب.
  2. تناقض سياسات معظم الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي مع قرارات الشرعية الإسلامية تناقضاً صارخاً غير قابل للتسويغ، ويعكس بالنسبة للمراقبين والمحللين السياسيين ازدواجية في المعايير السياسية لمنظمة المؤتمر الإسلامي. إذ كيف تطالب منظمة المؤتمر الإسلامي العالم بقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع الكيان الصهيوني، وعدم إقامة أية علاقات معها في الوقت الذي تقيـم بعض دولها علاقات دبلوماسية كاملة معه لهذا السبب أو ذاك؟ أليس في ذلك استغباءً للرأي العام العربي والإسلامي والعالمي؟
  3. الطلاق البيّن بين مضامين قرارات الشرعية الإسلامية وبين السلوك السياسي لغالبية الدول الأعضاء. فهي من ناحية تطالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة كافة وفي مقدمتها القدس، ومن ناحية أخرى تقف مكتوفة الأيدي إزاء حرب الإبادة المنظمة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب العربي الفلسطيني مستخدماً في ذلك كل الأسلحة الفتاكة في مواجهة الحجر الفلسطيني!! فلماذا مثلاً لم يصل الدعم المادي الذي أقره مؤتمر الدوحة ومؤتمرات منظمة المؤتمر الإسلامي السابقة؟.

وهل يوفر هذا السلوك السياسي لمنظمة المؤتمر الإسلامي شروط السلام العادل والدائم والشامل؟. السلام العادل والدائم والشامل لا يمكن أن يتحقق ما لم تقترن قرارات الشرعية العربية والإسلامية، ومن قبلها قرارات الشرعية الدولية بالفعل، ما لم تقترن بنشاط سياسي عملي وإجراءات تنفيذية وآلية تطبيقية تفضي إلى توفير مستلزماته وأهمها:

  1. فرض عقوبات على إسرائيل طبقاً للفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة بما في ذلك الوسائل العسكرية لحملها على الاذعان لقرارات الأمم المتحدة والانسحاب غير المشروط من الأراضي العربية المحتلة كافة وفي مقدمتها القدس وإخلائها كلياً من المستوطنين.
  2. الاعتراف العملي بحقوق الشعب العربي الفلسطيني الثابتة وغير القابلة للتصرف وعلى رأسها حقه في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة التامة على كامل ترابه الوطني وعاصمتها القدس.
  3. تمكين اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم المغتصبة دونما شروط وتعويضهم عن معاناة السنين الطويلة التي قضوها في الشتات.
  4. إلزام إسرائيل بتعويض الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين عما تحملته من أعباء مادية ومعنوية جراء ذلك.
  5. تخلي الكيان الصهيوني عن طبيعته العنصرية التوسعية العدوانية.
  6. إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
  7. تدمير الكيان الصهيوني لترسانته من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى وتلك المحرمة دولياً.

وعليه ليس المهم اتخاذ القرارات، أو إعادة انتاجها، أو استصدار المزيد منها في كل مؤتمر يتم انعقاده، ولا الصياغة اللغوية لهذه القرارات، ولا صيغ المناشدة والاستنكار والشجب والدعوة وغيرها من المحسنات اللفظية التي تعج بها قرارات الشرعيات الثلاث، بل المهم أن تجد هذه القرارات طريقها إلى حيز التنفيذ. إذ إن تطبيق قرارات الشرعية الدولية، والعربية، والإسلامية، ولو بحدها الأدنى، سواء تلك الخاصة بمجمل الأراضي العربية المحتلة في فلسطين والجولان ولبنان، أو تلك الخاصة بالقدس لما ظلت إسرائيل تسخر من القرارات ومتخذيها، ولما أدارت الظهر لها كل هذا الوقت.

فالكيان الصهيوني يعرف كما يقول المثل الشعبي “البير وغطاه”. فكيف له إذن أن يعير قرارات الشرعيات الثلاث وبخاصة الشرعيتين العربية والإسلامية أي اهتمام، وخاصة عندما تعمد الدول الاعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى تعطيل تشريع سماوي بقرار سياسي استجابة للإملاءات والضغوطات الأمريكية – الصهيونية، فتقدم في مؤتمرها السادس في داكار عاصمة السنغال على إلغاء مبدأ الجهاد، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة عندما تتعرض بلاد المسلمين أو أي جزء منها إلى عدوان خارجي؟!

لذا فلا عجب أبداً أن تتشبث إسرائيل باحتلالها للأراضي العربية والقدس بخاصة، وأن تضع الشروط للمصالحة والتسويات مع الأطراف العربية، وأن تستمر في إجراءاتها التهويدية لمجمل الأراضي العربية المحتلة، وتضرب من تشاء متى تشاء.

لقد أثبت تاريخ الصراع الصهيوني – العربي في بعض جوانبه وكذلك تاريخ الصراعات بعامة بأن الأوطان لا تحرر بالقرارات غير المقترنة بإرادة الفعل. فجنوب لبنان مثلاً لم يحرره قرارا مجلس الأمن 425 و 426، بل المقاومة المسلحة التي خاضتها حركته الوطنية مبرهنة على أن قوات الاحتلال الصهيوني عندما تواجه بإرادة الصمود والقتال وبأناس يشترون الحياة بالموت لا تملك الاّ أن تنسحب مذعورة تحت جنح الظلام مخلفة ورائها أسلحتها الثقيلة، وأن إسرائيل ليست كما يشاع عنها من أنها تلك القوة التي لا تقهر بل تُذلّ وتُقهر و000 تهزم شر هزيمة.

وها هي انتفاضة الأقصى المباركة، انتفاضة الشعب العربي الفلسطيني التي يتصدى فيها الشعب العربي الفلسطيني البطل بصدور أبنائه العارية أطفالاً وشباباً، رجالاً ونساءً، لأعتى آلة عسكرية في الشرق الأوسط تقدم الدليل على أن إسرائيل قوة يمكن اجبارها على الإذعان للشرعية الدولية، عندما تتوافر إرادة الصمود، والاستعداد للتضحية. صحيح أن الشعب العربي الفلسطيني قد أعطى شهداءً أكثر مما قتل من جنود الاحتلال ومستوطنيه، بسبب اختلال موازين القوى كلياً لصالح الكيان الصهيوني. ولكنه صحيح أيضاً ان إسرائيل باتت تعيش أجواء حرب دائمة تكلفها الكثير مادياً وبشرياً وتساهم في كشف حقيقة نواياها اللاسلمية على صعيد الرأي العام العالمي، الأمر الذي سيضطرها في نهاية المطاف إلى الاستجابة والرضوخ لاستحقاقات السلام العادل والدائم والشامل وقرارات الشرعية الدولية. والحقيقة أن إسرائيل ما كانت لتستجيب لإرادة المجتمع الدولي والذهاب إلى مدريد، لو لم تكن انتفاضة عام 1987م تؤرق حكامها وتقض مضاجع أهلها. لذا فهي تتشبث اليوم بضرورة وقف الانتفاضة كشرط لاستئناف المفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية. وعليه بات مطلوباً عربياً وإسلامياً توفير كل مستلزمات استمرار الانتفاضة حتى يتمكن الشعب العربي الفلسطيني من انتزاع حقوقه الوطنية ويقيم دولته المستقلة على كامل تراب وطنه وعاصمتها القدس، ولن يتحقق ذلك فعلاً إلا بزوال الأسباب التي تحول دون ذلك؛ أعني زوال الكيان الصهيوني المصطنع في المنطقة.