مواقف وسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه قضية القدس لا يمكن فصلها عن مواقف وسياسات دوله مجتمعة أو منفردة من قضية فلسطين وهي باختصار شديد محكومة بالمبادئ الآتية:-

  1. مسؤولية بعض دول أوروبا وتحديدا بريطانيا وفرنسا عن بروز الصراع الإسرائيلي -العربي بأبعاده المختلفة وأهمها القضية الفلسطينية ورمزها قضية القدس . فالقضية الفلسطينية ظهرت إلى الوجود بإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين وتمكينه بالتنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية من استكمال احتلاله لفلسطين، ومرتفعات الجولان السورية، وشبة جزيرة سيناء في حرب الخامس من حزيران عام 1967م.
  2. تبعية سياسة الاتحاد الأوروبي الفلسطينية والعربية و”الشرق أوسطية” شبة المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية.
  3. علاقات دول الاتحاد الأوروبي الخاصة مع الكيان الصهيوني التي تقترب من حد الإذعان لإرادة إسرائيل ومطالبها، وبخاصة تلك الدول التي تعتبر نفسها مثقلة بتاريخها تجاه اليهود كألمانيا الاتحادية.
  4. المصالح الحيوية للاتحاد الأوروبي في المنطقة العربية وأهمها النفط.
  5. حالة التجزئة والتشرذم المسيطرة على السياسة العربية وعدم اتفاقها حول مواقف وسياسة موحدة من القضية الفلسطينية والقدس.
  6. قرارات الأمم المتحدة المعروفة في الأوساط السياسية والإعلامية بقرارات الشرعية الدولية.

ولكن ما رؤية الاتحاد الأوروبي لقضية القدس وسياسات الاتحاد الأوروبي تجاهها وتجاه ضم إسرائيل للقدس واعتبارها عاصمتها الموحدة والأبدية، وإصرارها على المضي قدما في تهويدها تنفيذا لتوصيات صاحب “الدولة اليهودية” ثيودور هرتسل ضرورة محو الآثار والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية فيها؟
وللإجابة عما تقدم من أسئلة ينبغي تعقب رؤى ومواقف وسياسات الدول الأوروبية من خلال قضايا محددة أبرزها:-

أولا- تدويل القدس

الموقف الأوروبي من قضية تدويل القدس يمكن تلخيصه بآلاتي:-

  • تأييد قرار الجمعية الأمة رقم 181/1947م الذي ينص على أن يكون للقدس كيانها الخاص تحت إشراف دولي بتأثير من الكنيسة الكاثولوكية و دولة الفاتيكان.
  • تراجع الدول الأوروبية البروتستانتية عن تدويل القدس بينما ظلت الدول الأوروبية الكاثولوكية على موقفها المؤيد للتدويل باستثناء هولندا التي امتنعت عن التصويت على مشروع القرار المؤكد للقرار 181/1947م، الأمر الذي شجع إسرائيل على نقل عاصمتها من تل أبيب إلى الشطر الغربي من القدس في 23/1/1950م.
  • استجابة هولندا لمطلب إسرائيل بنقل سفارتها إلى الشطر الغربي من المدينة الأمر الذي يعني اعترافا عمليا بالاحتلال الإسرائيلي للقدس مخالفة بذلك قرار الجمعية العامة رقم 181/1947، وقرار مجلس الأمن رقم 69/1949م الذي أوصى بقبول إسرائيل عضوا في هيئـة الأمم بعاصمتـها تل أبيب شريطة الاعتراف بقرار الجمعية العامة رقم 194/1948م الخاص بعودة اللاجئين والتعويضات.
  • تراجع الموقف الأوروبي عن تدويل القدس بتوقف دولة الفاتيكان عن تبني فكرة التدويل طبقا للبيان الصادر عن أمانة سر دولة الفاتيكان في 6/11/1969م وطالبت فيه البابا لأول مرة بعدم تدويل القدس على أن يكون لها وضع خاص من خلال أمانة دولية لمدينة القدس وحماية مناسبة للاماكن المقدسة، وان يعهد إلى ممثلي الطوائف اليهودية والمسيحية والإسلامية القاطنة في المدينة إدارة القسم التاريخي (المدينة القديمة) وتحت إشراف دولة إسرائيل. وشكل ذلك تحولا خطيرا في مواقف وسياسة دولة الفاتيكان تجاه القدس وإذعانا للعراقيل التي وضعتها إسرائيل أمام تعيين قاصد رسولي للبابا في القدس. الأمر الذي فسره تيدي كوليك “الرئيس السابق” لما يسمى ببلدية القدس بان الفاتيكان قد صرف النظر نهائيا عن فكرة التدويل، مما مهد الطريق تماما أمام ابتلاع إسرائيل لكامل مدينة القدس بإتباع سياسة تهويدية نشطة للمدينة لم تستطع قرارات الأمم المتحدة و عودة دولة الفاتيكان إلى إثارة موضوع التدويل إيقافها.
ثانيا – احتلال الشطر الشرقي من القدس

يمكن تلخيص الموقف الأوروبي بآلاتي:-

  1. الموقف الأوروبي من احتلال إسرائيل للشطر الشرقي للقدس منسجم مع مواقف دول الاتحاد الأوروبي المؤيد لقرار مجلس الأمن رقم 242/1967م الذي لا يجيز احتلال أراضى الغير بالقوة العسكرية. ويطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. وجاءت قرارات الشرعية الدولية اللاحقة مؤكدة لذلك ومشددة على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة ومن القدس. والامتناع من الإتيان بأي عمل من شانه التغيير في الوضع الديموغرافي والحضاري والديني والتاريخي للقدس العربية . وهي بذلك تتفق مع النص الفرنسي وليس مع النص البريطاني للقرار (242).
  2. رفض الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو باحتلال إسرائيل للشطر الشرقي منها، وتعليق نقل سفارات دول الاتحاد الأوروبي إلى القدس إلى حين التوصل إلى تسوية نهائية بشان المدينة وهو ما نصت عليه اتفاقية أوسلو، وإعلان المبادئ الفلسطيني-الإسرائيلي والاتفاقيات الأخرى اللاحقة.
  3. امتناع الدول الأوروبية من القيام بأي عمل من شانة أن يفسر على انه اعتراف ضمني باحتلال إسرائيل للقدس أو يضفي الشرعية على الاحتلال الاسرائيلي لها.
  4. التأكيد المتكرر على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة وفي مقدمتها القدس وحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
ثالثاً – سياسة التهويد الإسرائيلية للقدس

ويتلخص الموقف الأوروبي في هذا المجال بآلاتي:

  1. الشجب اللفظي لسياسة التهويد الإسرائيلية للقدس بشقيها التشريعي والعملي خلال مرحلة السبعينات والثمانينات.
  2. تفاوت الموقف الأوروبي بشان قرار الجمعية العامة رقم 35/196/1980م الذي يدين إصرار إسرائيل على مواصلة سياستها التهويدية للقدس، ودعوتها للامتثال التام لجميع قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالطابع التاريخي للقدس.
  3. رفض معظم الدول الأوروبية تأييد قرار إدانة إسرائيل بسبب أعمال الحفر التي أجرتها اسفل وحول الحرم الشريف في القدس.
  4. 4- لا ابالية مواقف الدول الأوروبية بشأن جريمة حريق الأقصى التي تراوحت بين دعوة إسرائيل للامتناع عن أي عمل يستهدف تغيير وضع القدس، وبين إبداء الأسف لعدم امتثالها لقرارات الأمم المتحدة.
رابعاً: القانون الأساسي للقدس

يتلخص موقف المجموعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي) من القانون الأساسي الإسرائيلي بشان القدس بآلاتي:

  1. تأييد قرار مجلس الأمن رقم 478/1980م الرافض للاعتراف بـ “القانون الأساسي بشان القدس”، ومطالبة الدول الأعضاء التي تقيم بعثات دبلوماسية في القدس بسحبها اذ أيدت الدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن هذا القرار.
  2. عدم الاعتراف بقرار الكنيست الإسرائيلية اعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.
  3. تأييد جميع القرارات الصادرة عن الجمعية العامة سنويا منذ عام 1981م التي تطالب الدول الأعضاء التي لها سفارات في القدس بسحبها بما فيها هولندا التي لها سفارة في القدس وتؤكد جميعها على عدم شرعية الإجراءات الإسرائيلية الخاصة بالقدس وتشجب نقل بعض الدول لسفاراتها إلى القدس.
خامساً: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس

موقف المجموعة الأوروبية من قرار الكونغرس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس منسجم مع قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقدس والتي ما انفكت الجمعية العامة للأمم المتحدة تؤكد عليها في دورات انعقادها العادية كل عام. بيد أن ردة الفعل الأقوى على قرار الكونغرس الأمريكي جاءت من الدولتين العضويتين في مجلس الأمن بريطانيا وفرنسا. إذ انتقدت الأولى وعلى لسان وزير خارجيتها آنذاك “ملكوم ريفكند” قرار الكونغرس الأمريكي رافضا أي تدخل من هذا القبيل في قضية حساسة كالقدس.

أما فرنسا فقد أكدت وزارة الخارجية على ضرورة الحفاظ على الوضع الراهن لمدينة القدس. وطالبت بعدم اتخاذ أي إجراء من شانه التأثير على نتائج المفاوضات المزمع إجراؤها حول القدس ودعت إلى الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 478/1980م.

أما بشان “قانون تفويض العلاقات الخارجية” الذي اقره الكونغرس مؤخرا وصادق عليه الرئيس الأمريكي الذي يعتبر القدس عاصمة لإسرائيل أينما وردت في الوثائق الرسمية الأمريكية فلاذ الاتحاد الأوروبي حتى ألان بالصمت، الأمر الذي يظهر مجددا هيمنة أمريكية شبه مطلقة على موضوع الصراع الإسرائيلي العربي وتبعية أوروبية للقرار الأمريكي.

سادساً: الاتحاد الأوروبي ومظاهر السيادة الخارجية الفلسطينية

يمكن تلخيص موقف الاتحاد الأوروبي بالآتي:

  1. التعامل مع “بيت الشرق” كمقر للسياسة الخارجية الفلسطينية من خلال إصرار ممثلي “الترويكا الأوروبية” المنبثقة عن الاتحاد الأوروبي على زيارة “بيت الشرق” كلما زار القدس. وهو ما ظلت إسرائيل ترفضه في حين رحبت السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير بهذا القرار باعتباره مظهراً من مظاهر الاعتراف بسيادتها الخارجية انطلاقاً من القدس. وقد عبر إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق عن الاستياء الإسرائيلي عندما خاطب خافيير سولانا وزير خارجية أسبانيا آنذاك والمنسق العام للعلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي حالياً قائلاً: “إن العنوان الوحيد لمقابلة السلطة الفلسطينية يوجد في منطقة الحكم الذاتي”. أما شمعون بيرس فقد اعتبر الموقف الأوروبي امراً “مثيراً للقلق والمتاعب”، فواجهته بسن “تشريعات لسد أي ثغرة يحاول الفلسطينيون النفاذ منها لتأكيد بطلان وعدم مشروعية القانون الأساسي للقدس”. وتوالت التشريعات الإسرائيلية التي أوقفت نشاط “بيت الشرق”، إلى حين تعهدت الجهات المسؤولة خطياً بأن ممارستها لنشاطاتها تتم خارج إطار السلطة الوطنية وعدم تلقيها دعماً مالياً منها.
  2. عدم إذعان دول الاتحاد الأوروبي للقرارات والتشريعات الإسرائيلية الكابحة لنشاط “بيت الشرق” باعتبارها باطلة من وجهة نظر القانون الدولي ومتناقضة مع قرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بالقدس. فاصدر الاتحاد الأوروبي قراراً في تموز 1996 يلزم وفد الترويكا بمواصلة زياراته لبيت الشرق كلما زار القدس. وهو ما دفع وفد ترويكا إلى إلغاء زيارته للقدس بسبب منعه من زيارة “بيت الشرق” التي كان من المقرر أن يقوم بها للقدس في تشرين الثاني من عام 1996م.
  3. إصرار فرنسا وهي الدولة العضو الدائم في مجلس الأمن على حقها فيما أسمته “الزيارة التقليدية ” لبيت الشرق كلما زار وزير الخارجية الفرنسي للقدس.الأمر الذي أفضى إلى أزمة بين البلدين عندما أصرت الحكومة الإسرائيلية على عدم السماح للوزير الفرنسي بزيارة “بيت الشرق” كل ما زار القدس، مما حمل الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى استثناء وزير خارجيته من عضوية الوفد المرافق له أثناء زيارته إلى فلسطين وكلف وزير الصحة للقيام بتلك الزيارة بدلا منه.
سابعاً – القدس في اجتماعات الاتحاد الأوروبي

بدأت مساعي توحيد سياسة المجموعة الأوروبية نحو القضية الفلسطينية بمبادرة فرنسية عام 1971م . إذ نجحـت في إقنـاع شركائهـا بضرورة التوصل إلى رؤيـة أوروبية مشتـركة “لازمة الشرق الأوسط” وتسويتها عرفت بـ “بيان شومان” الذي تضمن عدة نقاط أهمها:

  1. انسحاب إسرائيل إلى ما وراء خطوط 4/6/1967م باستثناء تعديلات طفيفة في الحدود بموافقة الأطراف المعنية.
  2. حل قضية القدس استنادا إلى “التدويل الإداري للمدينة القديمة وسائر الأماكن المقدسة، بموافقة الدول المعنية بما يضمنْ حرية الحركة لجميع الأطراف.
  3. نص بيان المجموعة الأوروبية في 6/11/1973م على ضرورة أن تؤخذ حقوق الشعب الفلسطيني في الاعتبار عند إقرار التسوية. كما شهد تطورا في تفسير القرار 242 حيث طالبت المجموعة الأوروبية إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 دون أي ذكر لتعديل الحدود كما جاء في “بيان شومان”. وان هو اغفل قضية القدس.
  4. النظر للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية لا قضية لاجئين وهو أهم تحول طرأ على الموقف الأوروبي خلال العقد السابع من القرن الماضي.
  5. أعاد “بيان البندقية” الصادر عن المجموعة الأوروبية قضية القدس إلى محور اهتمام المجموعة الأوروبية باعترافه “بالدور المهم جدا الذي تكتسبه مسألة القدس بالنسبة لجميع الأطراف المعنية. و أكد على عدم قبول أية مبادرة تتخذ من جانب واحد تهدف إلى تغيير وضع القدس وان كل اتفاق حول وضع المدينة يجب أن يضمن حق حرية الدخول إلى كل الأماكن المقدسة … (و)التأكيد على ضرورة وضع إسرائيل حدا لاحتلالها للأراضي العربية، بما فيها القدس. فعبرت الجماعة عن يقينها بخطورته، واعتباره عقبة أمام مسيرة السلام في (الشرق الأوسط)”.
  6. العودة إلى تجاهل قضية القدس التي خضعت لسياسة تهويدية حثيثة لطمس هويتها العربية والإسلامية والمسيحية. ولم تعد المجموعة الأوروبية إلى ذكر القدس إلا في عام 1987م من خلال التذكير ببيان البندقية. كما اقترحت في عام 1989م “إجراء انتخابات “في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها “القدس الشرقية”.
  7. تلاشى الموقف الأوروبي منذ مدريد بسبب التعنت الإسرائيلي، وعدم سماح الولايات المتحدة لأوروبا ولغيرها لعب أي دور في المفاوضات يتعدى التمويل والمساعدة في تنفيذ مشروعات اقتصادية. لذا فقد تم استبعاد قضية القدس من أي اجتماع ومفاوضات للاتحاد الأوروبي إذعانا لاتفاقية أوسلو، وإعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي اللذان قضيا بتأجيل قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي التي كان من المفروض لها أن تبدأ في نهاية عام 1997م ولكنها ذهبت أدراج الرياح لتندلع انتفاضة الأقصى التي أعادت خلط الأوراق من جديد ليعود الاتحاد الأوروبي للحديث عن “إفراط إسرائيل باستخدام القوة”، وشجب ما سماه بالعنف الفلسطيني مساوياً في ذلك بين الضحية و جلادها.