5 : الرؤية الأردنية لمشاريع الحلول الخاصة بالقدس

السلام بقضاياه المتعددة هو الوجه الآخر للصراع وقضاياه. لذا فمن الطبيعي ان تكون النظرة الأردنية للسلام وقضاياه ومشاريع الحلول الخاصة بقضايا السلام محكومة بذات المبادئ الحاكمة لرؤية الأردن للصراع الاسرائيلي – العربي، أي محكومة بذات الثوابت والمتغيرات عبر المراحل المختلفة التي مر بها هذا الصراع منذ قيام دولة اسرائيل وحتى الآن.

ففي المرحلة الأولى للصراع الاسرائيلي العربي الممتدة حتى اندلاع حرب الخامس من حزيران عام 1967م، كان السلوك السياسي الأردني منسجماً مع النظرة المبدئية لهذا الصراع، وبالتالي استحالة السلام مع اسرائيل. بكلمات أخرى لا سلام مع وجود اسرائيل.

وفي المرحلة التالية الممتدة حتى الآن أصبحت فكرة السلام وتسوية الصراع مع اسرائيل بالطرق السلمية ليست واردة فحسب، وانما هدفاً سياسياً لجميع دول المواجهة واسفرت حتى الآن عن عقد معاهدات مع دولتين عربيتين واعتراف متبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل في أعقاب توصلهما في مفاوضات سرية الى اتفاقية اوسلو عام 1993م، وتوقيع اتفاقية اعلان المبادئ الفلسطينية – الاسرائيلية في 13/9/1993م في البيت الأبيض بواشنطن. وهناك دول عربية أخرى وهي سوريا ولبنان على وشك التوصل الى تسوية سياسية مع اسرائيل.

وكيلا يغرق المرء في متاهات التفاصيل ويضيع في دهاليزها، وتجنباً للتكرار، لا بد من الوقوف على النظرة الأردنية المبدئية للسلام. بتعبير آخر ما هو شكل السلام الذي يدعو الأردن الى تضافر جهود أطراف الصراع المباشرين وغير المباشرين من أجل تحقيقه؟

ففي كلمة للحسين في افتتاح الحلقة الدراسية العربية حول الموارد العربية والسياسة الخارجية في 7/1/1981 يحدد جلالته العناصر الضرورية للسلام الشامل الذي يرى أنه يرتكز الى قاعدتين هما:

  1. القاعدة الأولى: هي الانسحاب الاسرائيلي الشامل من جميع الأراضي العربية التي احتلت منذ شهر حزيران عام 1967 ومن ضمنها القدس العربية. ولا يمكن ان يتحقق السلام دون عودة السيادة العربية الى القدس العربية، فالقدس في مفهوم السلام يمكن أن تمثل جوهر السلام.
  2. القاعدة الثانية: فهي ان حل المشكلة يجب أن يشتمل جميع الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في قرارات الأمم المتحدة”.

فالسلام الذي يؤمن به الأردن ويدعو الى تحقيقه هو السلام الشامل والدائم والعادل. وهذا يعني عملياً السلام المؤسس على المبادئ الأساسية التالية:

  • انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في حرب 5/6/1967م كافة، تنفيذاً لقراري مجلس الأمن 242/1967 و 338/1973 ولجميع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
  • اعتراف اسرائيل بحق الشعب العربي الفلسطيني بتقرير مصيره واقامة دولته المستقلة على أرضه في الضفة الغربية وبحدودها المعروفة قبل الاحتلال الاسرائيلي وعاصمتها القدس الشرقية.
  • تنظيف المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وهذا يعني الزام اسرائيل بتدمير اسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها لا أن يقتصر ذلك على غيرها. اذ يقول الحسين في هذا السياق في كلمة له أمام مؤتمر القمة العربية في بغداد في 28/5/1990م:

    “ان الذين يرفعون أصواتهم اليوم ضد العراق ويصعدون من حملتهم الظالمة عليه، مطالبون بموقف أخلاقي حقيقي من الترسانة النووية الاسرائيلية”.

  • تخلي اسرائيل عن طبيعتها العنصرية العدوانية التوسعية ونزعتها للسيطرة بشتى الوسائل.
  • اعتماد تنمية شاملة كفيلة بتحقيق السلم الاجتماعي بشقيه الداخلي والبيني. اذ لا مكان للسلام مع وجود فقر مدقع وتدنٍ في مستوى المعيشة خطير لمعظم سكان المنطقة مع ارتفاع في مستوى المعيشة لاسرائيل فقط أو لقلة قليلة معها. فالسلام بين الفقر المطلق والفقر الفاحش مستحيل سواء كان ذلك على صعيد الأفراد أو الدول. فمن غير المعقول أن يدوم السلام مع بقاء اسرائيل واحة غنى وتقدم تكنولوجي باتجاه هيمنة اقتصادية كاملة على المنطقة وهنا تتحمل الدول السبع الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية استثنائية في تحقيق مثل هذه التنمية الشاملة، وذلك بحكم حرصها على مصالحها الحيوية في المنطقة.

وعليه فان الرؤية الأردنية لمشاريع التسوية بعامة والقدس بخاصة لا تخرج عن اطار النظرة المبدئية للصراع الاسرائيلي – العربي في مرحلة ما قبل عام 1967م، والتحول الجوهري في النظرة الأردنية للصراع من صراع وجودي ناف للذات الأخرى الى صراع سياسي قابل للحل بالطرق السلمية في المرحلة التي تلت هزيمة الخامس من حزيران عام 1967م.

ففي المرحلة الأولى وانسجاماً مع نظرته المبدئية للصراع رفض الأردن بشكل قاطع تدويل مدينة القدس، لا بل ان الأردن ظل حتى الآن غير متحمس لمشروع التدويل. واذا لم يكن هناك من طريق غير التدويل، فلا بد أن يشمل التدويل المدينة بشطريها الشرقي والغربي. الأمر الذي أكده الحسين غير مرة. فقد ذكر الحسين في رسالة له بهذا الخصوص بعث بها الى قداسة البابا بولص السادس، وقداسة البطريرك المسكوني أثينا غورس، ونيافة الكاردينال بولص بطرس المعوشي بطريرك انطاكيا وسائر المشرق وسيادة رئيس أساقفة كانتر بري والمنشورة في 6/4/1971م:

“وفيما يتعلق بالسلام فالقدس في نظرنا درته وهو لن يتحقق الا من خلال صون كل حقوقنا فيها وفي انحسار الاحتلال عن كل ما احتل منها في حزيران 1967 مع تأكيدنا عزمنا على الاسهام من ثم في جعلها مدينة المؤمنين بالله جميعاً، وصون حقوقهم في مقدساتهم ووصولهم اليها جميعاً.

أما اذا كان البحث في التدويل امتداداً لما جاء في قرار الأمم المتحدة بالتقسيم عام 1947، فالحد الذي يمكننا البحث في قبوله هو تدويل كل القدس بشقيها العربي والاسرائيلي وتنفيذ كل ما جاء في قرار التقسيم المشار اليه.

أما تدويل الأماكن المسيحية والاسلامية فقط في مدينة مهودة مخنوقة فيها تلكم الأماكن من قبل اسرائيل، والتفريط بشبر من أرضنا التي احتلت في حزيران عام 1967 وحقنا المشترك الكامن فيها فهو ما لن يتحقق ما دمنا أحياء.

ويقيني أن قداستكم توافقونني على موقفنا الثابت هذا وعدالته وسلامته وعلى أننا في اعتماده بثبات متناه لن ينقطع، انما نفكر بمستقبل المنطقة والسلام والعالم بأسره اذ ان تعلقنا كمسلمين ومسيحيين بالقدس ومقدساتها في كل الأحوال لا يقل حتماً عن تعلق اليهود بها”.

واذا كان الأردن قد رفض تدويل مدينة القدس وفضل عدم تدويلها الا اذا شمل التدويل شطريها، فانه من الطبيعي أن يرفض ويقاوم أن تكون القدس عاصمة موحدة وأبدية لاسرائيل. فالاردن رفض منذ البداية الاحتلال وضم المدينة واتخاذ اسرائيل من المدينة عاصمة لها. وظل يطالب بعودة القدس الى السيادة العربية الاسلامية ويناهض السياسات الداعمة لاسرائيل في توجهاتها التوسعية حتى وان جاءت من دول تربطها مع الأردن علاقات جيدة. فالسلام والقدس بالنسبة للأردن صنوان، وعودتها عربية معيار صدق الداعين للسلام. اذ يقول الحسين مؤكداً ذلك أن “الرمز الحقيقي للسلام هو القدس وعودتها عربية هو المعيار الوحيد لصدق الداعين الى السلام في المنطقة”.

ومن الطبيعي أيضاً أن يرفض الأردن ويقاوم جميع المشاريع التي لا تؤدي الى عودة القدس للسيادة العربية، وان كان لا يعارض تقسيمها مجدداً، ولكن شريطة أن تكون عاصمة لدولتين: للدولة الفلسطينية المرتقبة ولاسرائيل. أي بمعنى أن تكون السيادة السياسية مقسمة. للدولة الفلسطينية على الشطر الشرقي ولاسرائيل على الشطر الغربي من المدينة.

أما “الولاية الدينية” أو السيادة على الأماكن والمقدسات الاسلامية وغيرها فهي لله وحده. وهذا ما تناوله البحث في مكان سابق.