4 : القدس والولاية الدينية

ان التحول الأبرز في الرؤية والسلوك السياسي الأردنيين تجاه القدس يتعلق بموضوع الولاية الدينية على القدس، وذلك من خلال مبدأ: “لا سيادة على القدس الا لله”. والأردن بذلك لا يفرق بين سيادة سياسية التي يقر بها للدولة الفلسطينية المنتظرة سلفاً، وبين سيادة دينية لله وحده فحسب، وانما يعيد أيضاً خلط الأوراق من جديد بطريقة أربكت الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وتركتهم في حيرة من أمرهم. فالجميع يتساءل ما المقصود بمبدأ “لا سيادة على القدس الا لله”. وهل بالامكان تجزئة السيادة الى “سيادة دينية” وأخرى سياسية؟ وما خلفيات هذا الطرح الذي كثر تداوله في السنوات الأخيرة وبخاصة عام 1994م، وهي السنة التي وقع الأردن فيها مع إسرائيل اعلان واشنطن وأبرم معها معاهدة صلح وكلاهما تحدث عن تعهد إسرائيل احترام “الدور الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن المقدسة الاسلامية في القدس” واعطاء الأردن “اولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن” عند مناقشة قضية القدس في مفاوضات الوضع النهائي؟ وهل هناك من نموذج تاريخي يحتذى به في هذا المجال؟ وهل يقبل الأردن أن تخضع الأماكن والمقدسات الاسلامية او المسيحية في الأردن مثلاً تحت سيادة دولة أخرى؟ واذا كان الأردن لا يقبل ذلك لنفسه، فكيف يمكن له أن يملي على الآخرين ما لا يرضاه؟ ام أن للأردن اهدافاً سياسية غير معلنة ؟ وهل هذه الاهداف ذات طبيعة مبدئية – استراتيجية، ام ذات طبيعة وظائفية باعتبار القدس الآلية الفضلى لتحقيق المصالح الوطنية للأردن؟

والحقيقة انه كلما كثرت الأسئلة زاد الارتباك والحيرة، وكلما تشعبت صعب على المرء انتهاج طريق يقود به الى استنتاج منطقي وموضوعي لمبدأ “لا سيادة على القدس الا لله”.

وقبل الدخول في دهاليز هذه “المغامرة” الوعرة المسلك وغير مضمونة النتائج، لابد من التساؤل عن القدس التي يقصدها الحسين في مبدئه “لا سيادة على القدس الا لله”، لعل ذلك يشكل مدخلاً سالكاً للخروج من مأزق التساؤلات اللامتناهية بشأن هذا المبدأ؟

ان السؤال التقليدي الذي يجول في خاطر كل مهتم بقضية القدس باحثاً كان ام سياسياً هو:

“عن اي قدس نتحدث”؟

وبما أن هذا المبدأ الجغرافي هو احد المبادئ الرئيسية الحاكمة للرؤية الاردنية للقدس والسلوك السياسي الأردني المستقبلي تجاهها، فلا بد من تحديد المضامين الجغرافية للتسميات المختلفة للقدس وهي:

  1. “القدس الشرقية”: هي الشطر الشرقي من المدينة الذي كان للجيش العربي الاردني شرف انقاذه واصبح فيما بعد جزءاً لا يتجزأ من اراضي المملكة الأردنية الهاشمية وظل تحت سيادتها القانونية والفعلية حتى الخامس من حزيران عام 1967م، ويخضع منذ ذلك الحين للاحتلال الصهيوني دون أن يعني ذلك زوال السيادة الأردنية عنه.
  2. “القدس الغربية”: هي الشطر الغربي من المدينة الذي احتلته اسرائيل في 30/4/1948، أي قبل شنها لحربها العدوانية في 15/5/1948، واتخذت منه عاصمة لها فيما بعد والخاضع لسيطرتها حتى شنها حربها العدوانية الثالثة في صبيحة الخامس من حزيران عام 1967م. التي تشكل الأحياء العربية ثلثيها، وكذلك البلدات والقرى المحيطة بها مثل: القطمون، والبقعة، والطالبية، والمصدارة، ولفتا، وعين كارم، والمالحة، وقالونيا، وجبل المكبر وغيرها.
  3. القدس: هي المدينة بكاملها. بشطريها الغربي والشرقي قبل الاحتلال الاول عام 1948م، والاحتلال الثاني عام 1967 وقبل ضم اسرائيل غير الشرعي لها في 28/6/1967م.
  4. القدس الدولية: هي المدينة والمناطق الملحقة بها كما هي معرفة او محددة في قرار الجمعية العامة رقم (181) لعام 1947. “وتشمل بلدية القدس (الحالية 1947)، مضافاً اليها القرى (والبلدات) المجاورة وابعدها شرقاً ابو ديس وأبعدها جنوباً بيت لحم، وابعدها غرباً عين كارم وتشمل معها المنطقة المبنية من قرية قالونيا…” أي القدس الشرقية والقدس الغربية معاً.
  5. القدس الموحدة/ القدس الكبرى: هي المدينة بشطريها الشرقي والغربي اللذان وحدتهما اسرائيل في اعقاب احتلالها لهما واعلنت ضمها لاسرائيل خلافاً لقرار مجلس الأمن رقم 242/1967 وجميع القرارات الصادرة عنه وعن الجمعية العامة واهمها قرار رقم 2253، في 4 تموز1967، وقرار رقم 2254 بتاريخ 14/ تموز/1967 ومنظمة اليونسكو وجميعها تؤكد عدم جواز احتلال اراضي الغير بالقوة وبطلان جميع التشريعات والاجراءات الادارية التي تغير في الواقع الديموغرافي والحضاري للمدينة، ومطالبتها بعدم الاتيان بمثل هذه الاعمال مستقبلاً، هذه المدينة التي تصل مساحتها الى حوالي 127كم2 حالياً وباتت تعرف في القاموس السياسي الاسرائيلي وفي الشارع الاسرائيلي كذلك بالقدس الكبرى التي تخطط اسرائيل لأن تصبح مساحتها 1000كم2 لاحقاً.
  6. قدس الولاية الدينية: المضمون الجغرافي لمبدأ: “لا سيادة على القدس الا لله” هو ذلك الكيلو متر المربع الواحد المعروف بالقدس القديمة داخل الاسوار الذي يضم الاماكن الاسلامية والمسيحية المقدسة وحائط البراق.

واذا كان هذا هو المضمون الجغرافي لمبدأ “لا سيادة على القدس الا لله” فما الهدف الذي يمكن أن يكون وراء ابداع الحسين لمبدأ “الولاية الدينية”، المتمثل بشعار “لا سيادة على القدس الا لله”؟

يرى البعض بأن ابداع مثل هذا المبدأ قد املته الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية، واختلال موازين القوى كليا لصالح إسرائيل بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وتدمير العراق. لذا فلا بد من اعمال العقل واستنفار الطاقات الذهنية لدى القادة السياسيين للخروج من الطريق المسدود الذي وصلت اليه المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية. والحسين هو الأقدر بحكم تجربته السياسية الطويلة على الاصعدة الوطنية والإقليمية والدولية وبما يمتلكه من نظرة ثاقبة للمستقبل، وكفاية في التعامل مع السياسة لا “فناً للممكن”، وانما “فن اللامستحيل”. اذ ان فشل المفاوضات يعني فشل ” العملية السلمية ” برمتها، مع كل ما تمخض عنها من معاهدات صلح مع هذا الطرف العربي او ذاك، واعترافات متبادلة، وهو البديل الاسوأ للاردن كياناً وشعباً ونظاماً سياسياً. لذا فان ابداعه قد جاء تلبية لأهداف متعددة أهمها التوصل الى سلام عادل ودائم وشامل.

ويرى البعض الآخر بأن مبدأ “السيادة الدينية” ما هو الا عملية التفاف بعيدة المدى وانتظار الأردن للحظة الحاسمة لاستعادة الضفة الغربية بقدسها وبالشكل الذي تقبل به اسرائيل، لذا فانه يشكل خطورة بالغة على طموحات الشعب الفلسطيني في ان يكون له دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

غير ان هذه الآراء التي يبديها فريق المشككين بنوايا الاردن وسلوكه السياسي المستقبلي يصعب صمودها امام المعطيات التاريخية التي ما فتئت القيادة الأردنية تكررها حتى الآن وهي:

  1. تعهد الاردن منذ وحدة الضفتين في اطار المملكة الاردنية الهاشمية في نيسان عام 1950م بعدم “المساس بالتسوية النهائية” للقضية الفلسطينية العادلة.
  2. تأكيد الأردن على حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وانفصال الضفة الغربية عن الشرقية. وكان ذلك واحداً من خيارات ثلاثة هي بالاضافة الى هذا الخيار خيار العودة للوحدة الاندماجية وخيار الدولة الاتحادية والذي عرف بمشروع المملكة العربية المتحدة عام 1972م.
  3. الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب العربي الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974م.
  4. الاعتراف بقرارات قمة فاس عام 1982م .. أي بالمشروع العربي للسلام والمستند الى ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة.
  5. قرار فك الارتباط القانوني والاداري مع الضفة الغربية في 31/7/1988م، باستثناء المقدسات والاماكن الاسلامية واقتصار ذلك فيما بعد على القدس والذي كان من احد اهم مبرراته هو سد الباب امام محاولات اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية الاستمرار في الضغط على الأردن لينوب عن الفلسطينيين في المفاوضات مع اسرائيل وبالتالي تحميله وزر كل السياسات الخاطئة للغير.
  6. الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبالقدس عاصمة لها وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها.
  7. التأكيدات المتواصلة بأن ليس للأردن من اطماع في الارض الفلسطينية وبأن القدس وديعة لدى الأردن سينقلها الى اصحابها الشرعيين بمجرد قيام الدولة الفلسطينية. وما تمسكه بالسيادة عليها وعلى الاماكن والمقدسات الاسلامية فيها الا حرصه على عدم تمكين سلطات الاحتلال الاسرائيلي من بسط سيادتها عليها بحجة فراغ السيادة.
  8. منح المفاوض الفلسطيني فرصة المشاركة في مؤتمر مدريد وفي المفاوضات اللاحقة من خلال مظلة الوفد الأردني – الفلسطيني المشترك وصولاً الى استقلاله في وفد فلسطيني خاص بعد توقيع اتفاقيات اوسلو في 13/9/1993.
  9. رفض التعاطي مع مشروع الوحدة الكونفدرالية الذي عرضه الطرف الفلسطيني غير مرة الا بعد أن يتمكن الشعب العربي الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره وقول كلمته بشأن شكل ومستقبل العلاقة الأردنية – الفلسطينية بحرية تامة. فمثل هذه العلاقة متروكة لارادة الشعب العربي الأردني والفلسطيني في البلدين بعد قيام الدولة الفلسطينية.

ولكن السؤال يبقى قائماً لماذا استثنى الأردن الاماكن والمقدسات الاسلامية، أي القدس القديمة من قرار فك الارتباط؟ ولماذا اصر الاردن كما يقول الحسين على ضرورة اعتراف اسرائيل باعطاء الأردن ” اولوية كبرى ” عند بحث موضوع الاماكن والمقدسات الاسلامية في مفاوضات الوضع النهائي وتضمين ذلك في اعلان واشنطن “واتفاقية وادي عربة”؟

وختاماً يمكن القول في هذا السياق أن مبدأ “لا سيادة على القدس الا لله”والذي قد يكون انتهى برحيل مبدعه الحسين بأنه متعدد الاهداف منها ما هو:

  • ذو طبيعة آلية للحيلولة دون فشل العملية السلمية وبالتالي العودة الى خيار الحروب والدمار واللااستقرار الذي يتهدد الجميع بالفناء وبخاصة الأردن الذي يعني ذلك بالنسبة له العودة الى خيار “الوطن البديل” وهو الكابوس الذي ما زال يقض مضاجع الحكومة والشعب على حد سواء.
  • ذو طبيعة سياسية، بمعنى تجريد المدينة من طابعها الديني بعزل “القدس الدينية” عن “القدس الدنيوية” لتقبل اسرائيل بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة من جهة، وليعترف العرب والمسلمون بالقدس الغربية عاصمة لاسرائيل. واذا فعلت إسرائيل ذلك حتى مع بقاء القدس موحدة ولكن مقسمة السيادة، فإن ذلك لا يعني عملياً تراجعاً اسرائيلياً عن تشبثها بالقدس عاصمة موحدة وابدية ولا سيادة لاحد عليها سواها فحسب،وانما مسماراً في نعش البناء العقائدي لليهودية الصهيونية. فالقدس هي “حجر سنمار” هذا البناء الذي إذا ما استل فلابد لهذا البناء الواهي من ان يتساقط كلياً.
  • ذو طبيعة مصلحية .. اذ ان للأردن مصالح متشابكة سواء بصيغة التلاقي او التقاطع او التعارض مع طرفي مفاوضات الوضع النهائي مثل قضية المياه والحدود واللاجئين وحق العودة و/او التعويض ومستقبل العلاقة الاردنية الفلسطينية وشكلها، الامر الذي يقود البعض الى التفكير بأن تشبث الأردن بالسيادة على القدس قد يكون بدافع حماية مصالحه الحيوية. أي توظيف ” الولاية الدينية ” على القدس كورقة ضاغطة على الطرف الفلسطيني لحمله على التجاوب مع الاردن في التوصل الى تسوية مرضية للطرفين بشأن جميع تلك المسائل العالقة وللحيلولة دون تقديم الطرف الفلسطيني تنازلات للطرف الإسرائيلى عند بحث تلك المسائل في مفاوضات الوضع النهائي وعلى حساب الطرف الثالث الأردن.