انتهت الحرب العدوانية التوسعية التي شنتها اسرائيل في الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967م ضد مصر، وسوريا، والاردن، كما هو معروف، باحتلال شبه جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية، والضفة الغربية من المملكة الاردنية الهاشمية آنذاك. ولم تمض سوى ايام قلائل على قرار وقف اطلاق النار، وانتهاء الحرب حتى سارعت سلطات الاحتلال الاسرائيلية الى هدم السور الذي كان يفصل آنذاك بين شطري القدس الشرقي والغربي لتعلن في 27/6/1967م عن اعادة توحيد المدينة والى الأبد.

وها هي سلطات الاحتلال الاسرائيلية تباشر منذ 16/6/2002 بناء سور بطول (750) كم، وبارتفاع (8) امتار ليس حول القدس فحسب، بل وفي الضفة الغربية طبقاً لتصوراتها للحدود المستقبلية.

فكيف للمرء ان يفسر ذلك السلوك الاسرائيلي؟ بمعنى لماذا هدمت السور الذي كان يفصل شطري القدس آنذاك؟ ولماذا يعاد بناء سور جديد بطول (750) كم، ولا سيما ان “سياسة الاسوار ” بعد هدم سور برلين في ايلول من عام 1989م، احد ابرز معالم الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وفي ظل العولمة، باتت من مخلفات الماضي؟ وهل صحيح ان الظروف الامنية لاسرائيل هي التي املت المباشرة ببناء هذا السور، كما تزعم سلطات الاحتلال الاسرائيلية؟ ام ان السياسة التوسعية العدوانية الاسرائيلية هي المحرك لبناء هذا السور، والتحول من سياسة هدم الاسوار الى سياسة بناء الاسوار؟ وهل امن اسرائيل مهدد حقاً ؟ واذ كانت ترسانة اسرائيل من الاسلحة التقليدية وغير التقليدية لم تضمن لها الامن، فهل يعقل ان تضمن الاسوار لها امناً ؟ وما مصادر الخطر التي تتهدد امن اسرائيل ؟ هل هي الدول العربية التي لا يسر حالها صديقاً بوضعها العربي المتردي وبخاصة بعد الاحتلال الامريكي- البريطاني – الصهيوني للعراق، وتهديد سوريا بنفس المصير ان هي لم تذعن دونما قيد او شرط للارادة الامريكية – الصهيونية ؟ ام هي سياسة اسرائيل التوسعية الاستعمارية الاستيطانية الاحلالية والدعم الامريكي اللامشروط واللامحدود لهذه السياسة ؟ وكيف يمكن لاسرائيل ان تقنع احداً، ولا نقول الرأي العام العالمي، انها تبني جداراً امنياً، وليس جداراً عنصرياً، اذا ما عرف المرء ان الجدار الامني المزعوم، وطوله (750) كم وبارتفاع (8) امتار، وانجز منه حتى الآن (360) كم يلتهم ما مساحته (164783) دونماً من الاراضي الفلسطينية المحتلة ويقسمها الى ثلاث مناطق امنية:

  1. منطقة امنية شرقية تمتد على طول غور الاردن بمساحة (1237) كم2 ؛ ما يساوي (21.9%) من المساحة الكلية للاراضي الفلسطينية المحتلة؟
  2. منطقة امنية غربية بمساحة (1328) كم2؛ ما يساوي 23.4% من المساحة الكلية للاراضي الفلسطينية المحتلة؟
  3. منطقة “أمنية” بينية بمساحة (3080.77) كم2 ؛ ما يساوي 54.7% من مجموع المساحة الكلية للاراضي الفلسطينية المحتلة التي تضم المدن الفلسطينية الكبرى ويقسمها الى (8) مناطق و (64) معزلاً فلسطينياً؟

ثم ما هذا الجدار الامني الذي يقتضي ان يتألف من:

  • اسلاك شائكة لولبية؟
  • خندق بعرض (4) امتار وبعمق (5) امتار ملاصق مباشرة للأسلاك الشائكة اللولبية؟
  • شارع مسفلت بعرض (12) متراً مخصص لدوريات المراقبة والاستطلاع العسكرية؟
  • شارع ترابي بعرض (4) امتار مغطى بالرمل الناعم؟
  • جدار اسمنتي الكتروني بارتفاع يزيد على (3) امتار ومجهز بمعدات الكترونية، واضواء كاشفة، وغيرها من مقومات ما يسمى بالبنى التحتية الامنية؟
  • شارع مسفلت آخر؟
  • وخندق مماثل للخندق الاول؟

وبعد ما هذا الجدار الامني الذي يفتك بالمجتمع الفلسطيني، ويشرد الاسر الفلسطينية، ويعزلها عن بعضها البعض، لابل يقطع اوصال الاسرة الفلسطينية النووية الواحدة ؟ اجل ما هذا الجدار الامني الذي يعزل (12482) اسرة فلسطينية، ويهجر (402) اخرى عدد افرادها (2323) فرداً، ويعزل (2438) مبنى، ويدمر عشرات المباني الاخرى؟

ما هذا الجدار الامني الذي يفصل حسب المصادر الاسرائيلية نفسها بين (230) الف فلسطينياً من سكان الشطر الشرقي للقدس، وبين (72) الف فلسطينياً يسكنون شرقي حدود بلدية القدس وما حولها؛ ويفصل بين المقادسة وبين فلسطيني الضفة الغربية ؟ ويخلق مشكلة بالنسبة لحملة الهويات الزرقاء ممن لفظهم السور خارجه؟ ما هذا السور الامني الذي يدمر البنى التحتية التعليمية؛ ويفتك بالمؤسسات الصحية والمجتمعية الفلسطينية الأخرى؛ ويصادر حق الفلسطينيين في المياه، ويخرب البيئة الفلسطينية، ويدمر ويعزل المواقع التاريخية والأثرية وبخاصة في القدس، ويعزل اكثر من (750) منشأة اقتصادية بما يأتي على الكثير مما تبقى من مقومات الاقتصاد الوطني الفلسطيني؟

وهل يجيز القانون الدولي، وبروتوكولات جنيف الاربعة لعام 1949م، والقانون الدولي الانساني والبروتوكلان الملحقان به، وقرارات الامم المتحدة والشرعية الدولية لاسرائيل مثل هذه الابادة المنهجية بقوة السلاح تارة، والسياسات والاجراءات الامنية المزعومة تارة ثانية وبكلتيهما في غالب الاحيان، وهذا النمط المبتكر من الامبريالية؟

اليست “سياسة الجدر الامنية” منتهى العنصرية والتمييز العنصري التي يدعي العالم المتمدن و “المتحضر” انه يرفضها ويحاربها دونما هوادة؟

ثم الا تشكل “سياسة الجدر الامنية” الاسرائيلية سياسة عنصرية اكثر وحشية من اية سياسة عنصرية عرفها التاريخ البشري قديمه وحديثه وفاق احدث طبعة منها قدمها نظام جنوب افريقيا العنصري أنذاك؟ اليس هذا الجدار اعلى مراحل الامبريالية الاسرائيلية؟

ولماذا يقف العالم متفرجاً على مأساة شعب يذبح بالسلاح ويصفى بالسياسات الامنية لدولة مارقة ومتمردة على القوانين والاعراف والشرعية الدولية تارة تحت يافطة محاربة الارهاب، وتارة تحت يافطة الدفاع عن النفس، واخرى تحت يافطة مستلزمات الامن؟

اجل مثل هذا السياج لا يمكن ان يكون ذا طبيعة امنية، بل هو سياج يجسد قمة العنصرية؛ أنه افراز عنصري لكيان عنصري وتجسيد لسياسات عنصرية بدليل ان الناطق الرسمي لشارون قد سارع فوراً الى رفض فكرة احمد قريع، رئيس الوزراء الفلسطيني بأن الفلسطينيين قد يفكرون بالمطالبة بدولة ثنائية القومية بدلاً من دولتين بقوميتن، اذا ما تمسكت اسرائيل بالاستمرار في بنائها لجدار الفصل العنصري، اذ ان اسرائيل بسياسة الجدر الامنية لم تبق امامه سوى مثل هذا الخيار. والانكى من ذلك ان رفض هذا الاقتراح لم يقتصر على اسرائيل وحدها بل تعداها الى الادارة الامريكية لتثبت مرة اخرى تمسكها بسياسة المعايير المزدوجة عندما ترفض فكرة الدولة ثنائية القومية بينما هي تسعى الى اعادة ترتيب الاوضاع في العراق على اساس اتحادي طائفي عرقي.

اذا كانت هذه هي حقيقة السياسة الامنية الاسرائيلية المستندة الى الاستحواذ على الارض وابتلاعها والظفر بالامن والسلام، وظل العالم متفرجاً على الابادة المنهجية الشاملة للشعب العربي الفلسطيني المتعددة الاشكال والآليات، وعلى تشبث اسرائيل بتكريس احتلالها للاراضي العربية الفلسطينية والقدس بمقدساتها الاسلامية والمسيحية عاصمة موحدة وابدية لها، وادارة الظهر للقوانين والاعراف والشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة بالقضية الفلسطينية والقدس والصراع الاسرائيلي العربي، فان المرء ليتساءل حقاً : الى متى سيبقى العرب حكومات وشعوباً اسرى الاوهام والاذعان لسياسة المعايير المزدوجة في الوقت الذي يذبح العرب صباحاً ومساءً، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً في فلسطين والعراق، وربما غداً في سوريا وبلدان عربية اخرى لم يخطر ببال حكامها انها مدرجة على قائمة ضحايا مستلزمات الامن الاسرائيلي. وحينها لا ولن ينفعها التمترس خلف شعارات اولويات مصالحها الوطنية؟

ثم اين هي مؤسسات المجتمع المدني من كل ما يجري في القدس والاراضي العربية المحتلة تحت غطاء الامن ؟ اين هي الاحزاب والنقابات والفعاليات الشعبية في الاردن، ومصر، وسوريا، واليمن، ودول المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي وفي العالم الاسلامي من مخطط ابتلاع القدس والضفة الغربية المحتلة؟ ام ان المعارك الجانبية الاخرى تحتل سلم اولوياتها وتتقدم على الخطر اليهودي الصهيوني الذي يفتك بفلسطين وقدسها ومقدساتها وشعبها باشكال متعددة كان آخرها وليس خاتمتها جدار الفصل العنصري الذي يلتهم الارض ويلفظ الشعب؟

آما آن الأوان لأن نصحو على وحشية الخطر الذي يداهمنا ولا يفرق بين عربي وآخر، ولا بين مسلم ومسيحي، ولا بين عربي واعجمي؟ اليس علينا ان نلوم انفسنا قبل ان نلقي باللوم على غيرنا من الامم والشعوب والدول. فعالم اليوم يعمل وفقاً لنظرية البقاء للافضل الدارونية. فهذا هو القانون الذي يحكم عالم العولمة. فالامم والدول والشعوب لا تعير بالاً الا للاقوياء، اما الضعفاء فمكانهم المقابر وحاوية التاريخ. ولعلنا ما نكون احوج اليوم الى ان ننشد مع ابي القاسم الشابي رحمه الله:

ومن لا يحب صعود الجبال
يعش ابد الدهر بين الحفر

أجل لا مجال للصمت بعد اليوم سواء على المستوى العربي أو الاسلامي وكذلك الدولي على الجميع ان يتحرك لايقاف هذا الجدار ثم انهاء الاحتلال اولاً واخراً. ذلك ان الاحتلال هو سبب عدم الاستقرار والأمن في المنطقة.

عبد الله كنعان

13/1/2004