بقلم :عبدالله توفيق كنعان
اتصلت به هاتفياً كعادتي للاطمئنان على الأصدقاء والتواصل معهم في ظل وباء الكورونا الذي أبعدنا عن فرصة الالتقاء ، واذا به يعاتبي كثيراً قال: مضى علي شهر في المستشفى ودخلت العناية المركزة ولم تتصل خيراً ان شاء الله قلت له: وأقسمت إنني لا اعلم وعتبت على أولاده الذين لم يخبرني احدهم وبعدها أصبحت أتواصل يومياً للسؤال عن أحواله داعياً الله ان يكون على الدوام بأفضل وأحسن صحة. وهكذا مضى شهر نتحدث معاً ويسرد لي انه يشعر بالافضل وفي يوم هاتفني ابنه حسين قائلاً: يؤسفني ان اخبرك بأن الوالد غادرنا الى رحمته تعالي وجواره بالأمس فرغبنا إعلامك قلت : لهذا السبب لم أجد جواباً بالأمس وانا أحاول الاتصال معكم للاطمئنان عليه.
وهكذا غادرنا منير دون وداع فجأة اصابتة الجلطة وكنا على أمل ان يكون قادراً على العودة لحياته الطبيعية خلال أيام واليوم وقد مضى على وفاتك أيها الأخ العزيز أربعون يوماً، وقد انتابني الشعور بالحزن الذي اختطلت به مشاعر الفخر والاعتزاز بشخصك الأصيل عندما أُعلن عن تسلمك وسام مئوية الدولة الأولى ، وأنت من جيل وطني مميز قدمت وقدمنا والزملاء معك الجهد والعطاء بكل اخلاص ووفاء لرفعة الوطن ونهضته من خلال عملنا في الديوان الملكي الهاشمي.
عرفته قبل أن يعين أميناً عاماً للديوان الملكي الهاشمي إذ كان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون وقبلها كان في رئاسة الوزراء وبحكم عملي في مكتب صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله ولي العهد آنذاك ، كان لا بد لي من التعامل المستمر مع أمين عام الديوان الملكي والمدير الإداري وبقية الزملاء الآخرين في الديوان لانجاز ومتابعة كل ما له علاقة من معاملات وكتب تخص مكتب سموه، ومع مرور الأيام تولدت بيني وبين منير الدرة رحمه الله علاقة اتسمت بالصداقة والاخوة وأحسبنا ولله الحمد قد تلاقينا كثيراً في العديد من الصفات المشتركة وهي الإخلاص في العمل والوفاء للعرش والوطن ومحبة الأمير، ولمست أن منير رحمه الله يمتاز بحسن الخلق والأدب والنزاهة والسلوك والنظافة والانحياز نحو الصح وكل ما هو قانوني غير مخالف سواء للتعليمات أو النظام، وكثيراً ما كنت اجلس في مكتبه لغايات العمل، لأرى البعض من المراجعين او الزملاء عاتبون عليه لأنه لم يوافق لهم على بعض مطالبهم التي كان يراها غير مقنعة أو مخالفة أو انه لا لزوم لها حسب رأيه، لهذا بقدر ما كان منير رحمه الله محبوباً بقدر ما كان كثيرون لا يرتاحون لقراراته التي لم تُلبي طلباتهم الشخصية.
فكل قرار يتخذه او كتاب يوقعه يسبقه الدراسة جيداً ويدرس تبعاته حتى نال بذلك الالتزام والنهج ثقة جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله وثقة رئيس الديوان، وكان الساعد الأيمن للامين العام هو المدير الإداري أنور سعدو رحمه الله ، الذي كان الأخر موضع ثقة الجميع ولعمق الثقة به كان أنور سعدو كما اعتقد أنه الوحيد الذي يطبع ويصدر الكتب المكتومة التي تصدر من الديوان للتوقيع، فقد كان رحمه الله يعلم كل شيء وان سألته لا يعلم شيئاً .. بالرغم من العلاقة الأخوية التي كانت تربطنا معاً خلال الدوام وبعده، ما كان ليصرح لي بأي معلومة مكتومة وهو يعلم أنني احمل صفاته في الإدارة وحفظ المكتوم بحكم عملنا وقربنا من أصحاب القرار، نعم، أمضى أنور سعدو عمره كله في الديوان الملكي يعمل بكل إخلاص ووفاء وتفان في الواجب، وكان انور سعدو نموذجاً في الخلق والادب واللباقة وحسن الادارة وقد كنا اصدقاء احباء في الديوان وخارجه إلى إن قرر دون ان يخبرني وأنا اقرب الزملاء إليه، إحالة نفسه على التقاعد بشكل مفاجئ للجميع وبعد أيام سألته لماذا فعل ذلك؟ قال : شعرت أن هناك رغبة من رئيس الديوان فرغبت أن تكون الإحالة بطلب مني قبل أن تكون بطلبه دفعاً لأي عتاب أو خلاف، وهذه بحق أخلاق الكبار، نعم هكذا كان انور سعدو رحمة الله عليه .
وهناك حادثة لا بد لي من ذكرها ولو أني لم أكن لأرغب بذكرها هنا لولا أنها هامة وضرورية للتوثيق والتاريخ، عندما ذهبت إلى مكتب أنور سعدو لمراجعته حول معاملة تعود لمكتب سمو ولي العهد لم أجده في مكتبه وعندما سألت عنه لعله مجازاً أو مغادراً قال لي الأخ منير صاحبك أنور (تحت) كان يعرف مدى علاقتنا الوطيدة مع بعض (وتحت) هذه تعني طابق التسوية وهو خاص لكافة شؤون الإدارة حيث القلم والملفات والطباعة والتصوير ذهبت إلى (تحت) وإذا بأنور وبعض الإخوة الزملاء المسؤولين عن الملفات يجلسون حول طاولة وعليها عشرات الملفات.
وبعد السلام عليهم سألت لماذا كل هذه الملفات شو القصة يا (ابو لارا) وهو أنور سعدو؟ قال : أنها الملفات المغلقة من زمان نجهزها لإتلافها سألت لماذا قال لي رحمه الله انظر لم يعد لدينا خزائن لحفظ الملفات الجديدة وهذه قديمة صدر الأمر الخلاص منها لان أخونا محمد حسن حاغور أبو مراد مسؤول عن القلم وتحفظ بإدارته كافة الملفات ونحن بأمس الحاجة إلى فراغ في الخزائن لنتمكن من حفظ الملفات الجديدة.
مددت يدي على احد الملفات فوجدت مذكرة صادرة على ما اذكر من قائم مقام محافظ البلقاء موجهة لم أعد أذكر بالتفصيل إن كانت موجهه إلى محافظ العاصمة أم لوزير الداخلية يذكر فيها أن الشيخ حديثه الخريشة وهو شيخ مشايخ من بني صخر رحمه الله وهو شيخ جليل مشهود له بالوطنية ومساعدته للثورة الفلسطينية ومشهود له بالكرم والعطاء والشهامة قاد مع رجال من عشائر بني صخر وهي من قبائل الوطن الخيرّة لصد هجوم تعرضت إليه العشيرة من قبل جماعة أخرى .
أمسكت بالورقة في الملف وقلت يا جماعة هذه وثيقة هامة وضرورية لا يجوز إتلافها ولا إتلاف أي ملف على الإطلاق، قالوا : هذه أوامر صدرت ونحن ما علينا إلا التنفيذ وعدت مسرعاً إلى الأخ منير الدرة الأمين العام وأخبرته رأيي بأن هذه الملفات يجب أن لا يتم إتلافها (وإذا عاد القارىء الكريم للملفات لوجد إنني قدمت مذكرة إلى رئيس الديوان الملكي وكان دولة مضر باشا بدران اقترحت فيها إنشاء مركز توثيق وإعلام في الديوان الملكي ، واستمرت محاولاتي فقدمت نفس المقترح بالاشتراك مع المرحوم محمود تيم وكان يعمل في الجمعية العلمية الملكية ورقة بهذا الخصوص، عندما كان المرحوم دولة احمد اللوزي رئيساً للديوان الملكي لم تسمح التكلفة المقدرة لتنفيذ المقترح وكانت حينها خمسون ألف دينار ، واضفت قائلاً: للأخ منير سوف اقترح إنشاء مركز توثيق في مكتب سيدى حسن قريباً بإذن الله " وفعلاً تم إنشاء المركز ولا زال حتى اليوم).
ولأنها وثائق هامة وفيها تاريخ الأردن وجزء من أرشيفة قلت أيضاً في سياق الموضوع: أنت تذكر استاذنا في كلية الحقوق بجامعة دمشق المرحوم الدكتور رزق الله انطاكي كان يقول لنا كل ورقة هامة قد تكون وثيقة نحتاجها يوماً في القضاء فلا تهملوا اية ورقة اطلاقاً كما انني قد ذهبت في دوره توثيق وإعلام إلى القاهرة لمدة ثلاثة أشهر وتعلمت في الدورة أن قصاصة الورق مهما كانت يجب توثيقها وعدم إتلافها واضفت للأخ منير، وإلا فسوف أذهب الآن إلى سيدى حسن وأعلمه بذلك قال : لا تذهب الى سمو الأمير انتظر لأعرض رأيك على معالي رئيس الديوان، وكان المرحوم سيادة الشريف عبد الحميد شرف وما أن غاب حوالي ربع ساعة وأنا في مكتبه انتظر حتى عاد منير وفوراً رفع سماعة الهاتف مخاطباً أنور سعدو قائلاً أبو لارا بأمر سيادة الشريف أوقفوا عملية وتجميع الملفات المغلقة وسنبحث فيما بعد موضوع حفظها، عندها شعرت بارتياح وقلت له فوراً اخ منير أحفظوها في مبنى ومكاتب العهدة المجاور للديوان هناك متسع كبير حيث تحفظ فيه كافة احتياجات الديوان من القرطاسية واللوازم والأثاث.
قال "جبتها" والله معقول خلاص انحلت المشكلة التي نواجهها، ومازحني رحمه الله قائلاً: أنت من أين جئتنا، رئيس الديوان قال لي: رأي عبدالله كنعان صحيح هذه وثائق هامة لا يجوز إتلافها أوقفوا العملية فوراً قلت له غداً ستقرأ الأجيال ويستفيد الباحثون والمؤرخون من هذه الملفات وما تحويه هذه السجلات من وثائق تتعلق بكل مراسلات الديوان الملكي المحلية وغيرها من المراسلات على مدار عقود من تاريخ الدولة، وهكذا تم حفظ تلك الملفات وما تتضمنه دون إتلافها وإلا كانت كل المعلومات فيها قد ضاعت معها.
عرجت على هذه القصة بعجالة، لأخلص بالقول: بأن المرحوم منير الدرة، كان غيوراً على عمله ووطنه واسع الصدر يستمع للرأي والمشورة السديدة، ومتفهماً لكل رأي صائب للخير وساعياً بإخلاص وعطاء لا ينقطع نحو النهوض بما يتولاه من أعمال ساهم معه في انجازها زملاء كرماء كان شعارهم الإخلاص ومنهجهم التفاني والبذل، أسسوا لمن جاء بعدهم من الزملاء الذين عمدوا إلى النهضة والتطوير لتعظم الانجازات، هو نموذج خيرّ لم يذمه أو ينتقذه أحد بل كان محور الثناء والتقدير من الجميع ، يُجمع كل من يعرفه بأنه إنسان خلوق طيب السيرة والمعشر ولثقة جلالة الملك الحسين رحمه الله بالأخ منير وحرصه على المال العام والمصلحة العامة تمّ تعيينه ناظراً للخاصة الملكية إثر انتهاء مهمة المرحوم أنور مصطفى الذي كان يشغل ذلك المنصب.
رحم الله الأخ العزيز والهم أهله وذويه ومحبيه وعارفيه الصبر والسلوان ، فسبحان الله الذي اختص البقاء وكان قدره على عباده الفناء، ولكنها سنة الحياة وناموسها الاّبدي فالحياة استقبال ووداع وفراق، والفراق صعب والله لرحيل عزيز كريم علينا جميعاً، ولكنها إرادة الله ولا راد لمشيئته وإرادته سبحانه، رحمك الله أيها الأخ الصديق رحمة واسعة وأسكنك الله الجنة مع الأبرار، والبقاء لله وحده ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
إنا لله وإنا إليه راجعون