عبد الله توفيق كنعان
أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس
ان الوحدة التاريخية والجغرافية والثقافية لمنطقتنا العربية، كانت وما تزال هي السمة التي تشكلت منها الهوية الحضارية، والمتتبع للتاريخ والجغرافية السياسية والثقافة العربية بشكل عام، يجد أن مفاهيم الوحدة والانسجام والانتماء جعلت المواطنة الجامعة هي الهوية الحقيقية لنا جميعاً والتي ذابت معها مفاهيم العرق والدين والمذهب والولاء للجغرافيا الضيقة والقبيلة وغيرها من تشعبات يمكن تسميتها بالهويات الفرعية التي انطوت تحت عنوان كبير هو أمة عربية وإسلامية تاريخها ومستقبلها وتطلعاتها واحدة.
ومراجعة سريعة لتاريخ منطقة بلاد الشام يتضح خلالها أن الإدارة الإسلامية منذ البداية قسمتها لوحدات إدارية هي: (جند الأردن وجند قنسرين وجند دمشق وجند حمص وجند فلسطين)، وبقيت تدخل ضمنها المدن والقرى والبوادي وفقاً لسياسة الحكم الإداري في كل مرحلة،والغاية منها تنظيمية ولا يقصد بها فصل المجتمع على أساس انتماء لعرق أو دين أو بين شعوب مختلفة، وقد بقي الأمر حتى مجيء الدولة العثمانية والتي قسمت إدارياً المنطقة إلى ولايات معينة يتبع لها ألوية، ففي عام 1864م صدر قانون الولايات العثماني وبموجبه قسمت ولاية سوريا إلى ولايتين هما : ولاية حلب وولاية سوريا التي قسمت إلى ثمانية ألوية هي: لواء حوران ولواء حماة ولواء اللاذقية ولواء عكا ولواء البلقاء ولواء بيروت ولواء طرابلس، وجرت لاحقا عليها عدة تغييرات منها تشكيل قضاء عجلون الذي ضم منطقة شرق الأردن والذي الحق بلواء حوران وبقي حتى عام 1918م، كذلك استحداث ولاية عمّان عام 1876م، ومع مجيء الحكومة الفيصلية عام 1918م أصبح يقع ضمن حدودها كل من سوريا وشرق الأردن.
وهكذا أصبح تنقل الأفراد ضمن هذه الولايات وكأنه أشبه بانتقال من مدينة إلى مدينة أخرى داخل الدولة نفسها باعتبارها تتبع للدولة العثمانية العلية، لذلك عاش المواطن العربي والمسلم ضمن هذه الأقاليم يتنقل بينها لأسباب اقتصادية تجارية وثقافية وتعليمية أو بدافع الهجرة القسرية التي كانت نتيجة المضايقات والضغوطات التي يتعرض لها الفرد نتيجة للعنصرية الدينية أو الإرهاب الفكري الذي يمارس ضده، كما هو حال أخوتنا من الشركس والشيشان والأرمن، الذين كان انتقالهم للحفاظ على دينهم وهويتهم وثقافتهم التي تعرضت لهجمة شرسة من روسيا القيصرية آنذاك، كما التقى ذلك مع رغبة الدولة العثمانية الاستفادة من خبراتهم في رفد المجتمعات الحضارية بخبرات اقتصادية وعسكرية جديدة،
ومع انطلاق الثورة العربية الكبرى عام 1916م والتي أعلنت منذ البداية أن من أهدافها الحرية والاستقلال، شهدت المنطقة العربية وتحديداً بلاد الشام ممارسات عملية للفكر والمشاريع الوحدوية، مثل مشروع سوريا الكبرى والذي لم يكتب له النجاح بسبب خيانة الحلفاء للشريف الحسين بن علي وعدم الوفاء بوعدهم له، نظراً لسياسة الاستعمار والانتداب الفرنسي والبريطاني في المنطقة والقائمة على منع مشاريع الوحدة والوفاق العربي، وبالرغم من ذلك كان من ثمار الفكر الهاشمي صدور الدستور الفيصلي عام 1920م القائم على المساواة والتعددية والاعتراف بالآخر والمواطنة وحفظ الحقوق المتساوية لجميع المواطنين بمن فيهم غير المسلمين وهو نموذج يحتذى لصياغة الدساتير العصرية، كذلك قيام الممالك الهاشمية في العراق وسوريا وشرق الأردن، وها نحن ولله الحمد نحتفل اليوم بالمئوية الأولى للمملكة الأردنية الهاشمية،حيث كان وما زال النهج السياسي الهاشمي قائم على المواطنة الكاملة والعدالة والتي نصت عليها المادة الأولى من الدستور ((المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه، والشعب الأردني جزء من الأمة العربية ونظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي))، وبالتالي فقد أسهمت ومنذ البداية الشخصيات القومية المرافقة للشريف الحسين بن علي في الثورة العربية الكبرى إضافة لمن التف حولهم من أحرار العرب في إدارة الدولة الديمقراطية التي أرادها الهاشميون، وتعكس مُسميات وأهداف العديد من الأحزاب السياسية التي ظهرت في إمارة شرق الأردن درجة الاعتناء بالاستقلال والقومية لدى الشعب الأردني ومنها جمعية الشرق العربي عام 1923م وحزب الشعب الأردني عام 1927م وكلاهما ينادي باستقلال سوريا الكبرى بقيادة الملك عبد الله الأول بن الحسين وتعزيز الأفكار الاجتماعية القومية، والمتتبع للإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الأردن يجد ان الجميع من أبناء هذا المجتمع المتماسك شارك وبفعالية كل في مجاله في المسيرة الحضارية والتنموية للدولة الأردنية التي نفاخر بها وبقوة العالم.
ان الوقت الصعب الذي نعيش تحدياته اليوم يتطلب منّا الالتفاف حول أنفسنا وقيادتنا لنبني هذا الوطن العزيز ليكون سنداً قوياً لأمته العربية والإسلامية، وعلينا في الوقت نفسه إدراك عظمة تكويننا ونسيجنا الوطني الذي تكمن فيه قوتنا، وأن نبتعد عن قيام البعض عن قصد أو غير قصد برواية تاريخنا العريق بشكل مغلوط يخالف السرد التاريخي الصحيح، الأمر الذي اتمنى من وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي ووزارة الثقافة والأندية والملتقيات الثقافية والحزبية والنقابية العمل على بناء جيل يدرك معنى المواطنة ونعزز سلوكه بقيم تخدم مسيرة البناء والتقدم لبلدنا العزيز، جيل يعرف تاريخه الأصيل ويحافظ على موروثة ويعمل على خدمة وطنه وأمته ، ولي مع جيل الشباب الأردني تجربة شخصية فقد تشرفت بالإشراف على منتدى الشباب العربي الذي تأسس عام 1988م بدعوة من صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله، حيث ضم آلاف الشباب الأردنيين ووصل عدد أعضائه عام 1994 خمسة آلاف شاب من خيرة أبناء الأردن من جميع أبناء المحافظات الأردنية وعُني بمسؤولية توعيتهم الوطنية بالارتكاز إلى منطلقات النهضة العربية والدستور الأردني لتكون المواطنة المظلة التي يعملون تحتها بانتماء وإخلاص لوطنهم، وخلال عامين فقط استطعت تشكيل فرع في كل محافظة ولواء وجامعة أردنية، وعليه يجب تعليم وتوعية الأجيال بوصفها بناة المستقبل التمسك بتاريخها ووطنيتها، إذ ما أزال حتى اليوم احتفظ في أرشيفي الخاص بجواز السفر الصادر عن الدولة العثمانية والذي كان يحمله والدي رحمه الله، كذلك أعتز بأن والدي من أوائل من سكن مدينة عمّان إلى جانب غيره من الشركس والشيشان والأرمن والشوام ((بمفهومه الجديد أما كلمة الشوام فهي تعني كل أبناء سوريا الكبرى الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين)) وأبناء القبائل وجميع العمّانيين الأردنيين، وما أزال وسأبقى أعلم أولادي بأننا كلنا أردنيون من أجل الأردن، وكلنا فلسطينيون من أجل فلسطين، وكلنا عرب (مسلمين ومسيحيين) وكلنا أبناء بلاد الشام لأجل كل بقعة عربية وإسلامية وإنسانية نقدم لها ما يساهم في نهضتها، ونحميها ونترك لأجلها كل ما يسبب الفتنة والفرقة بين نسيجها الواحد لا سمح الله.
حمى الله الأردن قيادة وشعباً، ليكون الحصن المنيع المدافع عن الحق العربي في فلسطين والقدس والداعم لجميع قضايا أمتنا، ونسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والسلام بقيادة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله صاحب الوصاية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وقائد مسيرة التنمية والبناء في بلدنا العزيز الأردن.
الغد 20/1/2021 ص3