دروس الإسراء والمعراج في فكر الهاشميين

عبدالله كنعان

إن المناسبات الدينية والوطنية والقومية تعتبر مضامينها ودروسها مخزوناً فكرياً مهماً تستمد منه المجتمعات الحضارية على اختلافها طاقة معنوية وثقة كبيرة في عموم مسيرتها، لتساهم في تعاطيها مع كل ما يستجد من مواقف وأحداث، بوصفها مناسبات تحمل قيم الحرية والاستقلال والايمان والتعاضد والتشاركية، والاهم ترسيخها للدافعية نحو الانتاج والعطاء والبذل، تحقيقاً لغاية الوجود وفلسفته المتمثلة بالعبادة والتنمية.


ومن المعلوم أن رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام حمل رسالة الرحمة والنجاة للبشرية، والمتتبع لسيرته العطرة عليه السلام يجد ويتلمس الكثير من الدروس والعبر والمواعظ، والتي جاءت متزامنة معها وقائع معجزة ارتبطت بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، وكرمه اللامتناهي على نبيه المصطفى، ومن هذه المناسبات حادثة الاسراء والمعراج ولكي نفهم عمقها وأثرها، علينا التدقيق في توقيتها ومناخها السياسي والاجتماعي الذي عاشته الدعوة الاسلامية، فقد نقلت المعجزة العظيمة المباركة الجماعة والأمة بقيادة نبينا عليه السلام من مناخ الحزن والألم إلى واقع دولة متماسكة تربط افرادها العقيدة الراسخة والثقة المطلقة والعلاقات المتينة القائمة على الصدق والتضحية، وفي ذات السياق الوحدوي جاء الربط المكاني والروحي بين المسجد الحرام وبين المسجد الاقصى المبارك، قال تعالى : “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”. ، وهذا تأكيد على أن المسجد الاقصى بل ومدينة القدس عقيدة راسخة في ضمائرنا وقلوبنا نتمثلها في كل سلوكياتنا وندعم نضال اهلها وكفاحهم في حماية المقدسات أمام هجمة وغطرسة الاحتلال الاسرائيلي، الذي تجاوز كل تعاليم الأديان والاخلاق والشرائع القانونية والدولية.

ويُعد الفكر الانساني الحضاري الهاشمي مدرسة عصرية لها جذورها الممتدة إلى جدهم الاعظم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فعلى عاتقهم واجب مقدس هو نشر قيم التسامح والاخاء واحترام حقوق الانسان وكرامته، وكجزء من الكرامة الانسانية وعناصرها الوجدانية تمثل المقدسات ركيزة عبادة وهوية تتكون منها ذات الأمة، ولأن الوصاية الهاشمية هي تجسيد حقيقي لتعاليم الرسول الكريم ووصاياه النبيلة، فإن أمانة الرعاية والوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس، والتي تعود الى الاسراء والمعراج بالنسبة للمسجد الاقصى المبارك وكل المقدسات الاسلامية تعتبر نتيجة مباشرة لهذه المعجزة ، ودرس عملي يدلل على عالمية هذه الحادثة وقداستها الروحية والزمانية حتى وقتنا الحاضر، والمطالع لخطابات جلالة الملك عبد الله الثاني يستشعر أهمية مناسبة ذكرى الاسراء والمعراج في بث العزيمة والارادة في أوقات ظهرت فيها تحديات تستلزم المجابهة، ومن ذلك أزمة جائحة كورونا حمى الله العالم منها دائماً، ففي كلمة جلالته للشعب الاردني بتاريخ 23 اذار 2020م ودعوته لنا بالالتزام بتعليمات السلامة العامة والتعاون لتجاوز الأزمة الصحية، قال جلالته حينها: (( وإننا إذ نستمد الشعور بالبركة من مناسبة الإسراء والمعراج، في ليلة من أيامنا هذه، فإننا نستذكر حديث جدي الأعظم، المصطفى، عليه الصلاة والسلام، “المُؤمنُ للمُؤمنِ، كَالبُنْيانِ المَرْصُوصْ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً”، فقد كان الأردني دائما لأخيه الأردني، سندا، وسيظل لوطنه درعا))، وهي وحدة مطلوبة ايضاً في سبيل الدفاع عن القدس ومقدساتها، خاصة اليوم نتيجة لسياسة اليمين الاسرائيلي واحزابه الصهيونية المتشددة وهجمتها الشرسة على المسجد الاقصى المبارك / الحرم القدسي الشريف وكامل احياء ومقدسات مدينة القدس وفلسطين، وبمناسبة ذكرى الاسراء والمعراج يقول جلالته : (( في ذكرى الإسراء والمعراج، ندعو الله عز وجل أن يُعيننا على حمل أمانة حماية المسجد الأقصى المبارك ورعايته، مسرى نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم كل عام والأمتان العربية والإسلامية بخير وطمأنينة))، ونستخلص من هذه العبارات يقين وثبات جلالته على تجاوز كل ما يسعى الاحتلال الاسرائيلي اليه من محاولة بائسة بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الاقصى المبارك وتغيير الوضع التاريخي القائم عن طريق مشاريع الاستيطان ومخططات التهجير القسري للشعب الفلسطيني، ضمن مرحلة تطهير عرقي خطيرة.

وبنفس السياق المدرك لعظمة معجزة الاسراء والمعراج نُطالع الدرس الفكري الآخر في مدرسة الهاشميين، والمتمثل في مقال صاحب السمو الملكي الامير الحسن بن طلال بعنوان (( الاسراء والمعراج من الاشراق الى التنوير))، وهو مقال عميق المعاني والدلالات تحتاج كل عبارة فيه الى مقال منفصل لتدارسها وسبر أغوار ما تحويه من مضامين، ولكن سأقف هنا عند الاسراء والمعراج والمسجد الاقصى ودلالة هذا الربط، فالبركة من المسجد الاقصى انتشرت لدائرة مكانية أوسع لتطال البشر جميعهم بوصفهم تحت مظلة عبودية واحدة لله تعالى، وبالتالي نهوض جماعي بالانسان كانسان عالمي باخلاقه وطموحاته وواجبه، ينشر الفضيلة والعدالة ويتحقق بذلك التناغم الاجتماعي، وكما أكد سموه ايضاً بالامس في حفل اقيم في السفارة النمساوية على التعددية والتضامن بدلاً من التحريض والكراهية، ولا شك أن سموه أراد بمصطلحات الاشراق والتنوير هو أيجاد منهج دائم للعلاقات الانسانية الفردية والدولية بما في ذلك السلام والامن العالمي وحرية العبادة وحق ممارسة الشعائر بعيداً عن الانتهاكات والاعتداءات، واقتبس هنا جزءاً من مقالة سموه حول الرابط العميق بين الاسراء والمعراج والوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس حيث قال سموه: ” تذكرنا معجزة الإسراء والمعراج، بالمسؤولية الروحية والتاريخية التي يتصدر لها الأردن في رعايته للمسجد الأقصى، والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس.


ورغم الضغوطات والتحديات، فإن هذه الرعاية ستبقى تستمد قوتها من روح الإسراء، التي تمثل امتدادا لذلك الرباط المُقَدَّس بين بيت المقدس، والمصطفى وآلـ بيته وأتباعه أجمعين، تؤكد حادثة الإسراء والمعراج، حاجة مجتمعاتنا البشرية إلى منظومة أخلاقية، تعالج تصدعات العدالة الاجتماعية، وتحرر إرادة المستضعفين، وترفض نزعات الكراهية والعنف، وتقينا ويلات الكوارث والحروب، وتدعم روح التضامن والتكافل بين بني الانسان”، وهذا خطاب هاشمي ثابت اشار له صاحب الوصاية الهاشمية جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين قبل أيام في مؤتمر القاهرة “القدس صمود وتنمية” .


إن مدرسة الفكر الهاشمي الشاملة ممثلة بملوك وأمراء وأسرة بني هاشم تُعنى بالانسان وحالة الطمأنينة والسلام التي يجب أن تسود في عالم يقوم على الحرية واحترام حقوق الانسان وكرامته واستقلاله في تقرير المصير بعيداً عن الاستعمار والاحتلال، فرسالة الثورة العربية الكبرى ونهضتها القومية ورسالة عمان وحوار الاديان والتسامح جميعها اليوم تدلل على أن الوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس لا تقتصر على الاعمار والرعاية فقط، بل هي دعوة للجميع بتبني السلام العادل على أساس الحقوق التاريخية والشرعية كنهج في السياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية، وهنا علينا جميعا افراد ومؤسسات على اختلافها اعتماد استراتيجيات وخطط وبرامج فعالة تقوم في فلسفتها وأهدافها على مفردات الفكر الهاشمي ونستلهم منها طريق عمل يمكن به العبور، بل تجاوز كل ما يعترينا من صعوبات وتحديات، فالاسراء والمعراج في فكر الهاشميين نموذجاً للفهم في إطار الجهود الفاعلة لتحقيق تناغم انساني تحترم فيه الحقوق والمقدسات بعيداً عن يد الاحتلال والتطاول والظلم.

عبد الله توفيق كنعان/ اللجنة الملكية لشؤون القدس

عمون 23/2/2023

Comments are disabled.