الذكرى الـ 106 لوعد ( تصريح) بلفور المشؤوم على فلسطين والقدس كنعان: المنطقة والعالم يعانيان ارث الدبلوماسية الفردية

                                                       عبد الله توفيق كنعان

أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس

    نستذكر في هذه الايام العصيبة التي تشهد حرب ابادة اسرائيلية على فلسطين التاريخية خاصة في قطاع غزة المحتل والمحاصر منذ عقود، مرور 106 أعوام على وعد بلفور المشؤوم  المتضمن تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين ، والذي ساهم بشكل سلبي وخطير في موروث دبلوماسي ( استعماري) أصبح أداة صهيونية تستمد منه شرعيتها المزعومة الباطلة لتنفذ سياستها الوحشية، ساعدها منذ البداية استراتيجية ظالمة تتبعها بعض القوى العالمية التي تنادي زيفاً بحقوق الانسان والديمقراطية قائمة على الكيل بمكيالين والانحياز لاسرائيل، ولا يخفى على أحد أن الاطماع الاستعمارية في تقسيم المنطقة العربية ونهب ثرواتها وتعزيز الانقسامات والفتن الهدامة، كانت وما تزال جميعها دوافع لوعد بلفور.

     ويندرج وعد بلفور ضمن المخططات الصهيونية والاستعمارية، حيث بدأت تتضح معالمها في  مؤتمر بال عام 1897م، علماً بأن ما يمكن تسميته بالوعود البلفورية كانت بذورها تنمو في بيئة تتطلب تلبية المصالح في مرحلة عصيبة شهد فيها العالم حروب عديدة،  وقد استغل الصهاينة واليهود مجرياتها لتمرير مؤامرتهم، منها نداء ورسالة القائد الفرنسي نابليون بونابرت لليهود عام 1799م ووعده بمساعدتهم على الاستيطان في فلسطين، رغبة منه الحصول على قروض مالية من اليهود لتمويل حملته انذاك على مصر وبلاد الشام، وبنفس الاتجاه الاحلالي كان خطاب الدعم الالماني من قبل (دوق  إيلونبرج) باسم حكومة القيصر الالماني عام 1898م، الذي أعلن فيه  الاستعداد إلى مساندة الكيان الصهيوني فور قيامه،  ولاحقاً جاءت رسالة (فون بليفيه) الوزير الروسي الى هرتزل عام 1901م مفادها استعداد روسيا دعم اليهود بغية تأسيس دولة يهودية في فلسطين،  كان صك الانتداب البريطاني عام 1922م  ودعم حكومة الانتداب البريطاني للعصابات الصهيونية في حروبها ضد اهلنا في فلسطين ، واعلان التقسيم عام 1947م، وما أن جاء عام 1948 حتى تم اعلان قيام اسرائيل( السلطة القائمة بالاحتلال) من رئيس المنظمة الصهيونية و مدير الوكالة اليهودية، والاعتراف  بقبولها في الامم المتحدة عام 1949م بناءاً على  قبولها لقرار الجمعية العامة رقم 181 عام 1947م ( التقسيم)، وقرار مجلس الجمعية العامة رقم 194 عام 1948م العودة والتعويض، وإمعاناً في ترسيخ هذا الوعد وما افرزه من وقائع تاريخية مسمومة كان قرار ترامب ( بلفور الثاني) عام 2017م بالاعتراف بالقدس الكاملة الموحدة عاصمة مزعومة لاسرائيل، وما رافق ذلك طوال عقود من دعم واضح لاسرائيل بما في ذلك  سلاح الفيتو ضد اي قرار يجرمها في مجلس الأمن ،بما في ذلك استخدامه مؤخرا لرفض اي قرار يدين اسرائيل ويطالبها بوقف حربها الجنونية على اهلنا في غزة.

   ووقفة عند الابعاد القانونية والتاريخية والمنطقية التي يعارضها صراحة هذا الوعد المشؤوم نجد ان هذا التصريح ( الوعد) أعطي دون وجود أي صلة لبريطانيا بفلسطين حتى أنه تم قبل انتدابها على فلسطين (  لذا فقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق)، كما أعطي التصريح دون موافقة أو قبول من الدولة العثمانية صاحبة السيادة والولاية القانونية آنذاك على فلسطين التاريخية وعبارة السلطان عبد الحميد الشهيرة دليل على ذلك الرفض، والتي قال فيها :” لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي”، ومن الملاحظ أيضاً تناقض هذا الوعد مع الاتفاقيات والوعود البريطانية الصادرة للعرب بما في ذلك تعهد بريطانيا في مراسلات الحسين- مكماهون ( 1915-1916) اعترافها باستقلال الدولة العربية ومن ضمنها فلسطين التاريخية، كذلك يتعين ادراك أن تصريح بلفور هو دبلوماسية فردية وليس اتفاقية دولية أي بين دولتين معترف بهما عالمياً،  وبالتالي لا يترتب عليه أي صفة قانونية دولية تلزم المجتمع الدولي تجاهه، والأهم تناقض هذا التصريح مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وملكية ارضه، كما يخالف صراحة ميثاق عصبة الأمم المتحدة بما في ذلك المادة 20، والتي تنص على ضرورة الغاء جميع الالتزامات والاتفاقيات الدولية السابقة واللاحقة التي تتعارض مع الميثاق، ويبدو أن هذه المآخذ والدلائل لم تمنع من يطالبون العالم الالتزام بالقانون الدولي من دعم وعد بلفور وما ترتب عليه من نتائج ظلمت بسببها منطقتنا خاصة الشعب الفلسطيني، وما نزال تحت عبء هذا الوعد القاهر.

    إن اللجنة الملكية لشؤون القدس وبمناسبة الذكرى (106) لوعد بلفور المشؤوم، تذكر العالم ومنظماته بالواقع المأساوي للشعب الفلسطيني الذي نتج عن هذا الوعد الظالم، بما في ذلك ما يجري في غزة من ابادة وحشية ومجازر تعجز الانسانية عن تخيلها، وما تتعرض له أيضاً مدينة القدس وجنين ونابلس والخليل وكل شبر من فلسطين المحتلة من القتل والأسر والتشريد والابعاد والاقتحامات اليومية للمقدسات الاسلامية والمسيحية وفي مقدمتها المسجد الاقصى المبارك، إن ما يثير في النفوس والعقول  الحرة الدهشة والغرابة، هو كيف لهذا الوعد الفردي الباطل المشوه، أن يكتسب للأسف شرعيته عند البعض، بينما تنتهك يومياً جميع بنود اتفاقية جنيف والقانون الدولي الانساني ومواثيق حقوق الانسان ومئات قرارات الشرعية الدولية المعنية بالقضية الفلسطينية من قبل اسرائيل ومن يؤيدها؟، وكيف يطالب العالم بقبول وعود دموية خلفت تشريد أكثر من مليون لاجىء فلسطيني هجر ونزح عام 1948م وعام 1967م، حيث يشكلون اليوم حوالي 7 مليون لاجىء  في المهجر خارج وطنهم التاريخي فلسطين ،  وتدمير 500 مدينة وقرية فلسطينية ومئات الاف من الشهداء، وعشرات المجازر، ومئات جثامين الشهداء في مقابر الارقام الوحشية، واكثر من مليون اسير فلسطيني منهم اليوم 7000 في سجون الاحتلال؟ اليس من واجب العالم ومنظماته تحمل نتيجة جريمة هذا الوعد، والاعتذار عنه باعطاء الشعب الفلسطيني حقه باقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ووقف نزيف الدم الفلسطيني في غزة وجنين وغيرها.

   إن اللجنة الملكية لشؤون القدس وبعد قرن واكثر من تصريح بلفور المشؤوم، تأمل من الاعلام الحر  فضح  جرائم الاحتلال ، والتحذير من أن استمرار النهج والابرتهايد البلفوري،  والذي من شأنه اعطاء الضوء الاخضر لحكومة اليمين الاسرائيلية الحزبية الصهيونية المتطرفة للتمادي البربري في التطهير العرقي للشعب الفلسطيني، لقد آن الاوان للدبلوماسية العالمية الاعتراف بحقوق الشعوب في الكفاح والنضال ومقاومة قاتلها وسارق ارضها وحقوقها ومصيرها وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني المحتلة ارضه ومقدساته، وعلى اسرائيل أولاً ومن يدعمها ثانياً إدراك حقيقة ثابتة كشفتها الايام، وهي أن السنين لا تُنسي صاحب الحق حقه بل تزيده إصراراً على المطالبة به وأن الحقوق المشروعة لا تسقط بالتقادم.

وسيبقى الاردن شعبا وقيادة هاشمية صاحبة الوصاية التاريخية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس السند لفلسطين واهلها مهما كان الثمن وبلغت التضحيات.

بترا 1/11/2023

Comments are disabled.