1: تمهيد

سنقوم بدراسة قضية القدس في الشرعية الإسلامية والدولية والعربية، وذلك للارتباط الوثيق بين الشرعيات الثلاث من جهة، وأهمية التعرف على مدى التوافق والافتراق، والتناغم أو التضاد بين تلك الشرعيات من جهة أخرى. ولما كانت الشرعية الدولية هي القُدمى، كان لا بد من البدء بها.

ولكن وقبل الشروع بالبحث في سياسة المجتمع الدولي تجاه القدس والمبادئ الموجّهة لهذه السياسة ومدى إلزاميتها للدول الاعضاء لا بد من تحديد ماهية الشرعية الدولية. فما هي الشرعية الدولية؟ ودون الوقوع في “فخ البحث الأكاديمي”، أو التعارض معه يمكن القول بأن الشرعية الدولية: “هي كل ما صدر من قرارات أو توصيات عن هيئة الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة، أي كل ما صدر عن مجلس الأمن والجمعية العامة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية وجميع المؤسسات الأخرى المرتبطة بهيئة الأمم المتحدة من قرارات بشان القدس صراحة أو ضمناً كما في القرارات الخاصة بالنزاع الإسرائيلي – العربي بعامة”.

تستند هيئة الأمم المتحدة في سياستها تجاه القدس إلى جملة من القرارات الصادرة عن الجمعية العامة، ومجلس الأمن والهيئات الأخرى التابعة لها والمعروفة بقرارات الشرعية الدولية منذ 29/ تشرين الثاني/ نوفمبر/ 1947 وحتى الآن. وتعني الترجمة العملية لهذه القرارات:

2: مضامين الشرعية الدولية:
  1. تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية وأخرى يهودية.
  2. كياناً خاصاً بالقدس على أن يعاد النظر في الوضع النهائي لهذا الكيان بعد انقضاء عشر سنوات على قيامه.
  3. عدم شرعية احتلال إسرائيل للأراضي العربية، بما في ذلك الضفة الغربية والقدس في مقدمتها.
  4. عدم جواز اكتساب أراضي الغير بالقوة.
  5. بطلان جميع إجراءات تهويد الأراضي العربية بما في ذلك القدس، قانونية كانت أو سياسية أو استيطانية أو ديموغرافية، ومطالبة إسرائيل بالامتناع فوراً عن الإتيان بأي عمل من شأنه أن يغير في الطبيعة الدينية والحضارية والديموغرافية للأراضي العربية المحتلة بما في ذلك القدس.
  6. عدم شرعية الاستيطان ومطالبة إسرائيل بتفكيك القائم من المستوطنات.
  7. انسحاب اسرائيل من كامل الأراضي العربية المحتلة بما فى ذلك القدس.
  8. الاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره، واقامة دولته المستقلة ذات السيادة الكاملة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس.
  9. عقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط برعاية الأمم المتحدة ورئاسة مشتركة من الاتحاد السوفياتي سابقاً والولايات المتحدة الأمريكية واشتراك منظمة التحرير الفلسطينية فيه على قدم المساواة مع جميع الأطراف المشاركة في المؤتمر.
  10. إدانة سياسة التهجير والاستيطان الإسرائيلية وانتهاكاتها المتكررة لحقوق الانسان في الأراضي العربية المحتلة، وعدم تطبيقها لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وبخاصة الرابعة منها التي تنص على ضمان حياة الإنسان وحقوقه ابان الحرب.

غير أن ما يؤخذ على الشرعية الدولية انعدام أو ضعف القوة الالزامية لقراراتها. فقراراتها إما أنها مجرد توصيات، كما هو حال قرارات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، أو انها لا تقترن بآلية وإطار زمني محدد لتنفيذها. فجميع قرارات هيئة الأمم المتحدة (قرارات الشرعية الدولية) الخاصة بالقضية الفلسطينية لم تتخذ استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي يوجب ربط القرارات بآليات تنفيذها ضمن فترة زمنية محددة، ويضع عقوبات تصل إلى حد استخدام القوة العسكرية لإجبار الطرف المتخذة بحقه الاذعان لقرارات الشرعية الدولية. على العكس تماماً من قرارات مجلس الأمن ضد العراق التي اتخذت جميعها استناداً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهنا تظهر بوضوح سياسة ازدواجية المعايير التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية في ظل انهيار الاتحاد السوفياتي، وزوال القطبية الثنائية وتفردها بالإرادة والقرار الدوليين.

3: انعكاسات الشرعية الدولية على قضيتي فلسطين والقدس:

ولقد انعكست سياسة ازدواجية المعايير سلبياً على القضية الفلسطينية بعامة والقدس بخاصة، ولا سيما ان التفرد الأمريكي بالعالم وتسوية الصراع الصهيوني – العربي وفقاً لمصالح الكيان الصهيوني والمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها قد تعزز أكثر بعد أن تم اخراج العراق من ساحة المواجهة مع الكيان الصهيوني في أعقاب حرب الثلاثين دولة العدوانية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق تحت غطاء الشرعية الدولية. ولقد تجلت الآثار السلبية لسياسة ازدواجية المعايير على القضية الفلسطينية بالآتي:

  1. تفكيك القضية الفلسطينية في بعدها الوطني الى قضايا متناثرة تمهيداً لتوظيفها في المفاوضات الثنائية الفلسطينية – الاسرائيلية لإجبار الطرف الفلسطيني على تقديم المزيد من التنازلات وصولاً إلى الدولة الفلسطينية. وأكثر ما برزت خطورة مثل هذه السياسة في مجالي القدس وحق اللاجئين في العودة و/ أو التعويض. إذ إن التنازلات المزعومة التي يشاع بأن الكيان الصهيوني قد قدمها للطرف الفلسطيني يقابلها تنازلات حقيقية ومجحفة بحق هذا الشعب الذي يفترض فيه أن يقوم بتقديمها في مسألة حق اللاجئين في العودة و/ أو التعويض. وقد عكست “خطة كلنتون للسلام” ذلك بكل وضوح. وهي في حقيقة أمرها ليست إلا خطة إسرائيلية بإخراج أو زي أمريكي. وإذا ما تبنت الادارة الأمريكية الجديدة، إدارة الرئيس بوش الابن هذه الخطة وكتب لها النجاح فإنها ستكون أكبر كارثة تحل بالشعب العربي الفلسطيني وبالأمة العربية باعتبارها “سلام الشرعية الدولية”، مع انها في الواقع “سلام شرعية القوة والغطرسة الإسرائيلية الأمريكية”، وهي أبعد ما تكون عن السلام العادل والدائم والشامل الذي بات انشودة رسمية أو “وطنية” في عالمنا العربي والإسلامي.
  2. تجريد القضية الفلسطينية من بعدها القومي بعد أن فرضت الولايات المتحدة الامريكية وتحديدا إدارة جورج بوش الأب منهج المفاوضات الثنائية المباشرة على الأطراف العربية. وهو ما عرف بسياسة المسارب التفاوضية التي انتهت بتفرد إسرائيل بالطرف الفلسطيني بعد توقيع إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي في واشنطن بتاريخ 13/ 9/ 1993. وتكرس هذا المنهج في ظل إدارة كلنتون كأساس وأسلوب لأية مفاوضات لاحقة. فكان لإسرائيل ما أرادت من الاستفراد بكل طرف عربي على حدة، مما سهل لها تطبيق استراتيجيتها التفاوضية في ضرب الأطراف العربية بعضها ببعض، ووفر لها الكثير من الوقت للمضي قدماً في سياستها التهويدية للأراضي العربية المحتلة وبخاصة القدس، وذلك بهدف خلق “حقائق” او معطيات جديدة على الأرض تسهل مهمة الإدارة الامريكية بالاستمرار في تبني المنهج التفاوضي الإسرائيلي إجرائياً وسياسياً من جهة، وحمل الطرف الفلسطيني المستفرد به على تقديم المزيد من التنازلات من جهة أخرى، وإلا فسيقع عليه وحده وزر فشل المفاوضات و “العملية السلمية” وبرًمتها.
  3. تجريد القضية الفلسطينية من بعدها الإسلامي من خلال تقسيم العالم الاسلامي إلى معسكرات بحكم مواقفه المتباينة من مسألة المفاوضات وهي:
    • المعسكر الرافض للمفاوضات مبدئياً. وستكون لهذا المعسكر سياسته الرافضة للمفاوضات ولكل ما يتمخض عنها من نتائج، الأمر الذي يعني عملياً الاصطدام آجلاً أم عاجلاً بما عرف إعلامياً بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
    • المعسكر المؤيد للمفاوضات والمتحمس لها بقطع النظر عما ستتمخض عنه من نتائج، طالما أنه لا يتحمل وزرها، وإنما ستتحمله القيادة الفلسطينية وحدها، وربما يكون راغباً في ذلك أملاً منه في تعريتها والالتفاف عليها حينما تسنح له الفرصة بذلك.
    • المعسكر الاابالي والقابل بما تقبل به “السلطة الوطنية الفلسطينية”، والرافض لما ترفضه، طالما أن ذلك هو الأسلوب الأقل كلفة و”الأكثر شعبية”، والأسهل تطبيقاً.
  4. تجريد القضية الفلسطينية من بعدها الدولي. بمعنى آخر تفريغ الشرعية الدولية وقراراتها من محتوياتها ومضامينها خدمة للمصالح والاستراتيجية التفاوضية الاسرائيلية. وقد تجلت “سياسة التفريغ” هذه بالآتي:
    • العمل على إلغاء القرارات التي تدين الكيان الصهيوني وطبيعته العنصرية كما حصل لقرار الجمعية العامة رقم 3379 (د-0 3) بتاريخ 10/11/1975 القاضي باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، جندت له إدارة بوش الاب بعد انتهائها من حربها العدوانية ضد العراق كل طاقاتها السياسية والدبلوماسية. فكان لها وللكيان الصهيوني ما أرادا. وظلا يسعيان إلى تحقيقه منذ اتخاذ هذا القرار. إذ جاء قرار الجمعية العامة بإلغاء قرارها 3379 (د- 30) رقم 46/ 86 بتاريخ 16/ كانون الأول/ ديسمبر 1991 ممهداً الطريق امام تجريد القضية الفلسطينية من عناصر قوتها الدولية وانتزاع ملفها من أدراج هيئة الأمم المتحدة ونقله الى الادارة الأمريكية لتتعامل معه وفقاً لمصالحها الحيوية ومصالح حليفها الاستراتيجي. والغريب أن عشر دول عربية وإسلامية قد تغيبت عن جلسة التصويت وهي: البحرين، تشاد، تونس، جزر القمر، جيبوتي، السنغال، عُمان، الكويت، مصر، والمغرب، بينما امتنعت تركيا عن التصويت، في حين عارضته بقية الدول العربية والإسلامية. وجدير بالذكر أن العرف الدولي وكذلك قرارات محكمة العدل الدولية في لاهاي قد عدّت الامتناع والتغيب عن التصويت بمثابة الموافقة. بدليل أن قرار مجلس الأمن اعلان الحرب ضد العراق رقم 678 لعام 1990 قد اعتبر نافذاً رغم امتناع الصين عن التصويت.
    • نقل ملف القضية الفلسطينية المعروف بلغة “الشرعية الدولية” بملف الشرق الأوسط من الأمم المتحدة إلى الادارة الأمريكية وإلى طاولة المفاوضات الثنائية المباشرة.
    • استفراد الولايات المتحدة الأمريكية بملف الصراع الصهيوني – العربي وإدارة المفاوضات بالتناغم مع إسرائيل، مع أن الاتحاد السوفياتي سابقاً ووريثته روسيا الاتحادية حالياً الراعي الثاني “للعملية السلمية” وللمفاوضات.
    • التحريم على اي كان وبخاصة الاتحاد الاوروبي، وهيئة الأمم المتحدة الاقتراب من “ملف الشرق الأوسط”، إلا بموافقة أمريكية وبالقدر الذي تسمح به الادارة الأمريكية وفي الوقت الذي تختاره. وهو الخيار الأفضل والأقل كلفة مادية وسياسية لدول الاتحاد الأوروبي.