6 : خاتمة
6 : 1 الاستنتاجات

من خلال ما تقدم من عرض يمكن استنتاج الآتي:

أولاً: مركزية القضية الفلسطينية واستحالة الفصل بينها وبين قضية القدس.

ثانياً: الرؤية الأردنية للقدس وكذلك السلوك السياسي الأردني تجاهها محكومان بمنظومة من المبادئ المتشابكة منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير أهمها:

  1. المبدأ الديموغرافي.
  2. المبدأ الدستوري.
  3. المبدأ الديني (الولاية الدينية).
  4. مبدأ المصالح الوطنية الأردنية.
  5. مبدأ الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب العربي الفلسطيني.
  6. مبدأ احترام اسرائيل للدور الأردني طبقاً للبند الثالث من اعلان واشنطن البند الثاني/ المادة التاسعة من “معاهدة السلام الأردنية – الاسرائيلية”.
  7. مبدأ الشرعية الدولية.

ثالثاً: التحول في الرؤية الأردنية للقدس وكذلك السلوك السياسي الأردني تجاهها قد طال أبعادها المبدئية – الاستراتيجية والديموغرافية والسياسية، بينما اقتصرت الاستمرارية على البعدين الروحي والوجداني.

رابعاً: التفريق بين سيادتين على القدس: سياسية وهي للدولة الفلسطينية على الشطر الشرقي من المدينة، ولاسرائيل على الشطر الغربي. وسيادة دينية وهي لله وحده مع توجه أردني بأن يكون هو رمز هذه السيادة الدينية والمنحصرة في القدس القديمة ومساحتها كيلو متر مربع واحد باعتباره المبدع لهذا المبدأ الذي ظل الحسين يطمح الى أن يتمكن بواسطته اخراج “عملية السلام” من الطريق المسدود الذي وصلت اليه بسبب التعنت الاسرائيلي، وبالتالي الحيلولة دون عودة المنطقة الى خيار الحروب والدمار. بمعنى آخر أن تكون الولاية الدينية على القدس داخل الأسوار للأردن مما يحقق له تواصلاً روحياً وتراثياً مع رسالة الأجداد من جهة، ويجعله القاسم المشترك الأعظم بين كل أتباع الرسالات السماوية الثلاث.

خامساً: تغاير نظرة الأطراف الأخرى المعنية “لمبدأ السيادة الدينية”. فالطرف الفلسطيني يرى فيه خطراً على الطموح الفلسطيني في نضاله من أجل اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس ناهيك عن استحالة الفصل بين السيادة السياسية والدينية. أما الطرف الاسرائيلي فيرفض هذا المبدأ من الأساس استناداً الى مزاعم دينية وأساطير لاهوتية من جهة وانطلاقاً من حقائق الواقع القائم على الأرض من جهة أخرى.

سادساً: يمكن القول بأن مبدأ الولاية الدينية قد رحل مع الحسين وبالتالي لم يعد متداولاً، لا سيما وأن القيادة السياسية الأردنية الجديدة مياله للابتعاد عن كل ما من شأنه أن يثير الحساسية لدى الطرف الفلسطيني ويفتح الباب أمام تدخلات أطراف خارجية وبخاصة أمام اسرائيل لتسميم أجواء العلاقة الأردنية – الفلسطينية.

سابعاً: رفض مشروع الأمم المتحدة بتدويل القدس، الا اذا شمل شطري القدس وهو أمر مرفوض من طرفي الصراع المباشرين: السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل.

ثامناً: التحول عملياً من السلام العادل والدائم والشامل الى السلام المنفرد الذي ظل الأردن يرفضه حتى مؤتمر مدريد الذي أملته المتغيرات الاقليمية والدولية التي كان من الصعب على الأردن مواجهتها. اذ ان استمرار الأردن في هذه السياسة في ظل مثل هذه المتغيرات كان يعني المغامرة بمستقبله السياسي ووضعه في مهب الرياح.

6 : 2 آفاق مستقبلية

عند التدقيق في المبادئ الحاكمة للرؤية الأردنية والسلوك السياسي الأردني المستقبلي تجاه القدس من خلال نظرة فاحصة ونقدية لها على خلفية المصالح الوطنية الأردنية، ومستقبل العلاقات الأردنية الفلسطينية، نجد أن هذه المبادئ متناغمة في بعضها، ومتقاطعة في بعضها، ومتعارضة في البعض الآخر. بمعنى آخر هذه المبادئ فيها ما يشير الى أن المملكة الأردنية الهاشمية – غير معنية مباشرة بمفاوضات الوضع النهائي، وبالتالي انتفاء مبرر الجلوس على طاولة المفاوضات حول قضايا الوضع النهائي الى جانب الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي كطرف ثالث.

وفيها ما يشير الى عكس ذلك تماماً، اي ان المملكة الأردنية الهاشمية معنية مباشرة بهذه المفاوضات بحكم مصالحها الوطنية المتشابكة مع قضايا مفاوضات الوضع النهائي المشار اليها آنفاً، واهمها القدس. فواجبها الوطني يحتم عليها الجلوس على مائدة المفاوضات كطرف ثالث الى جانب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

ان هذه القراءة النقدية للمبادئ الحاكمة للرؤية الأردنية والسلوك السياسي الأردني المستقبلي تجاه القدس تقود الى الاستنتاج بأن الأردن أمام خيارين لكل منهما محاسنه ومساوئه وهما:

أولاً: خيار التمسك بمبدأ الاشراف على الأماكن والمقدسات الاسلامية في القدس.

يمكن القول بأن هذا الخيار لا يوفر للأردن من المحاسن أو الإيجابيات إلا القليل. اذ يعتقد البعض بأن الإصرار على دور أردني كلي أو جزئي في رعاية الأماكن والمقدسات الإسلامية، والاستمرار في الأشراف عليها يلبي التوجه الروحي لدى الهاشميين. وهذا أمر معنوي اكثر منه مادي ملموس، ويمكن توظيفه كورقة ضاغطة في مواجهة الطرف الفلسطيني لحمله على التجاوب إيجابيا في القضايا المعلقة بين الأردن وفلسطين التي قد تكون مواضيع خلافية، ان لم تكن بؤر صراع مستقبلي مثل: قضية المياه والحدود والعلاقة المستقبلية مع الدولة الفلسطينية، وعلاقة الأخيرة مع مواطني المملكة من ذوي الأصول الجغرافية الفلسطينية أصلا.

أما محاذيره فهي اكثر شفافية واحتمالية. وستقود بكل تأكيد إلى:

  1. تعزيز شعور الطرف الفلسطيني بعدم الثقة في الطرف الأردني الذي ينازعه “الشعب والأرض” على حد قول الرئيس ياسر عرفات، “بينما إسرائيل تنازعه الأرض فحسب”.
  2. حمل القيادة الفلسطينية على استخدام أوراق الضغط التي بيدها في مواجهة الأردن لاعتقادها بأن الأردن، ان هو ظل متمسكاً بموضوع السيادة، على الأماكن والمقدسات الإسلامية، أو بضرورة أن يكون للأردن دور في الأشراف الكلي أو الجزئي عليها سيضعف من الموقف الفلسطيني في مواجهة إسرائيل التي لابد وأن تكون الرابح الأكبر من سيطرة أجواء الشكوك وعدم الثقة بين الأردن وفلسطين.
  3. تأليب العرب ضد الأردن، لا سيما وأنه ما من دولة عربية واحدة تعترف للأردن بمساعيه للاحتفاظ بدور في الضفة الغربية، سواء كان ذلك الدور سياسي أو ديني، كما لم تعترف بتوحيد الضفتين من قبل من جهة، ولأن دولاً مثل مصر وسوريا والسعودية ترى بأن أي دور أردني ديني أم سياسي، لابد وأن يكون على حسابها من جهة أخرى.
  4. فتح الباب على مصراعيه أمام إسرائيل لاستغلال ذلك الخلاف لصالحها وهي البارعة والماكرة في التصيد في المياه العكرة واقتناص الفرصة المتاحة واستغلالها أيما استغلال لصالح سياستها التي تقوم على مبدأ عدم جواز تقسيم القدس مرة ثانية، ولا سيادة لأحد عليها إلا لإسرائيل باعتبارها العاصمة الأبدية لها والتي لم تكن عاصمة لغير اليهود من قبل.

ثانياً: خيار التخلي عن السيادة الدينية والسياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

يمكن القول بأن محاسن ومساوئ هذا الخيار هي عكس محاسن ومساوئ الخيار الأول. ولا غرابة في ذلك فهما خياران متناقضان ينفي كل منهما الآخر. وعليه فان محاسن “خيار التخلي” عن أي دور أردني في الإشراف على الأماكن والمقدسات الإسلامية في القدس سيقود حتماً إلى:

  1. بناء أجواء الثقة بين القيادتين الأردنية والفلسطينية وتعزيز أواصر العلاقة المتعددة الأبعاد والآفاق بين سكان طرفي النهر.
  2. خلق استحالة مادية دون توظيف كل طرف لأوراقه الضاغطة ضد الطرف الآخر، وبالتالي ضد النفس ولصالح العدو الصهيوني.
  3. خلق استحالة مادية دون تمكين إسرائيل من اختراق حرم العلاقات الأردنية – الفلسطينية.
  4. خلق استحالة مادية دون حدوث أي شرخ في الوحدة الوطنية في الأردن، وسد جميع الأبواب والنوافذ أمام أية محاولة في هذا الاتجاه من أي طرف جاءت.

أما مساوئ هذه الخيار فتكاد لا تذكر، اللهم إلا إذا ادى ذلك إلى بسط إسرائيل سيادتها على الأماكن والمقدسات الإسلامية بحجة ملء فراغ السيادة، والادعاء بأنها الأقدر على توفير حرية الوصول للأماكن والمقدسات الإسلامية والمسيحية من غيرها، وهو ما يتخوف الاردن منه فعلاً.

وبناءً على ما تقدم من استعراض لحسنات ومساوئ هذين الخيارين فان الأفضل للأردن أن يبقى بعيداً عن مفاوضات الوضع النهائي، وأن يلجأ الى حل المواضيع العالقة مع الطرف الفلسطيني والتي قد تشكل بؤرة خلاف مستقبلاً عن طريق لجنة أردنية – فلسطينية مشتركة تضع استراتيجية تفاوضية خاصة بالقدس وتتولى الاشراف على المفاوضات وادارتها بخصوص القدس ومستقبلها، وحتى لا تتمكن اسرائيل من دق اسفين بين الأردن وفلسطين وتلعب طرفاً ضد آخر خدمة لمصالحها – أهدافها التوسعية.

أما تخوف الأردن المشروع من بسط اسرائيل سيادتها على الأماكن المقدسة الاسلامية في القدس والحاقها بوزارة الأديان الاسرائيلية فيمكن تجاوزه باتفاق الاردن مع الطرف الفلسطيني على أن تبقى هذه الأماكن تحت السيادة الأردنية الى حين قيام الدولة الفلسطينية لينقلها الأردن الى الدولة الفلسطينية انتقالاً سلساً ومضموناً.