المسيحيون في القدس تحت نيران التهويد  والانتهاكات

عبد الله توفيق كنعان

أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس

تمثل القدس إلى جانب  أهميتها الدينية الاسلامية باعتبارها مركزاً حضارياً فكرياً إسلامياُ على إمتداد العهود التاريخية ، مكانة دينية أيضاً  لدى أهلنا المسيحيين في مختلف أنحاء العالم، فهم يرون أن سيدنا عيسى عليه السلام أمضى فيها جزءاً كبيراً من حياته، كذلك  نشأت في القدس خلال القرن الخامس الميلادي بطريركية القدس، ويأتي ترتيب كرسيها البطريركي الخامس على مستوى العالم بعد (بطريركية كل من روما والإسكندرية وإنطاكية والقسطنطينية)، وتشمل بطريركية القدس مناطق عديدة هي فلسطين والأردن والعراق وجزءاً من شبه جزيرة سيناء، وما تزال حتى اليوم كنيسة القيامة ودرب الآلام والعديد من المواقع والمقدسات  المسيحية  محج الكثير من المسيحيين من مختلف أنحاء العالم إلى مدينة القدس.

 وعلى إمتداد التاريخ العربي العريق للمدينة المقدسة برزت سمة العيش المشترك واحترام حرية الاعتقاد في مجتمعها  الواحد، واستمرت هذه الحالة الاجتماعية والثقافية السلمية خلال فترة الإدارة الإسلامية فمنذ فتحها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عقدت في القدس مع البطريرك صفرونيوس معاهدة تسامح وسلام سُميت (العهدة العمرية)، والتي أسست فيما بعد وعلى مدى حوالي (1300) عام لعلاقة إسلامية مسيحية مناخها الأخوة والأمن والمحبة، ولم تكن هذه الاتفاقية (العهدة العمرية) هي الوحيدة التي نجحت في تنظيم ورعاية العلاقات الإسلامية المسيحية في مدينة القدس، بل نجد اليوم أن الوصاية الهاشمية الهاشمية التاريخية للمقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس تنتهج نفس المسار من الرعاية والاعمار لهذه المقدسات والأوقاف.

ولكن بعد تعرض مدينة القدس كما هو حال فلسطين المحتلة لمرحلة الانتداب البريطاني الذي مهد للاستيطان والاستعمار الصهيوني وقيام كيان الاحتلال الاسرائيلي عام 1948م، بدأت مرحلة جديدة وخطيرة من الانتهاكات والاعتداءات الاسرائيلية تستهدف تهويد واسرلة وعبرنة المدينة المقدسة، وتسعى عبر خطة صهيونية ممنهجة أقرت في مؤتمر بال عام 1897م الى تغيير الوضع التاريخي القائم وتحويل القدس الى مدينة يهودية مزعومة  فقط، من خلال عملية تزوير للحقائق وتخريب وتحريف للآثار وترويج للاكاذيب التلمودية المختلقة، ليشهد بذلك العالم اليوم أكبر عملية تحريف تاريخية تشوه الوجه السلمي لمدينة القدس، حيث استهدف الاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1948م الاراضي والعقارات المسيحية  بالمصادرة والهدم لبناء المستوطنات اليهودية، اضافة الى استهدافها بالقنابل والقصف خلال حرب عام 1948 ومعارك عام 1967م، هذا العام الذي شهد بالتزامن مع الاعتداء على المقدسات الاسلامية وهدم حارة المغاربة التاريخية،  اقتحام الكنائس وسرقة محتوياتها كما جرى في كنيسة القديس يوحنا المعمدانية في عين كارم والقديس مارجريس للروم الارثوذكس في حي الشماعة وكنيسة القيامة ودير الروم الارثوذكس، وهي سياسة اسرائيلية استمرت في السنوات التالية، ففي عام 1970م مثلاً تمّ الاعتداء على رهبان دير السلطان ، وعام 1978م قررت السلطات الاسرائيلية ابعاد المطران كبوجي مطران القدس للروم الكاثوليك وهو من رموز النضال والصمود المقدسي ضد الاحتلال الاسرائيلي الظالم، وعام 1984م كانت محاولة تفجير دير الراهبات الارثوذكس في القدس، وعام 1992م  تمّ تحطيم الصليب الاثري وغيره من موجودات كنيسة القيامة، وعام 1998م جرى قتل راهب في كنيسة الشياح على جبل الزيتون من قبل المستوطنين، وعام 2002م مُنع المسيحيون من الاحتفال بسبت النور، وعام 2015م كان حرق كنيسة رقاد السيدة في جبل صهيون، وعام 2018م فرضت ضريبة الارنونا ( ضريبة المسقفات) على الكنائس المسيحية بمبالغ كبيرة، وعام 2020 قامت المحاكم الاسرائيلية باصدار قرار الاستيلاء على أملاك تابعة للكنيسة الارثوذكسية، وعام 2021م اعتدى مستوطن على الكنيسة للروم الارثوذكس في منطقة المصرارة في القدس،  وعام 2022م اصدرت المحاكم الاسرائيلية قراراً يرفض التماساً من بطريركية الروم الأرثوذكس، من أجل إبطال استيلاء منظمة “عطيريت كوهانيم” الاستيطانية، على 3 مبان تمتلكها في  باب الخليل بالبلدة القديمة، وضمن سياسة الاستيلاء والسرقة هذه قامت مجموعة من المستوطنين نهاية العام الفائت باقتحام أرض تابعة للبطريركية في وادي حلوة بسلوان جنوب البلدة القديمة .

  إن اللجنة الملكية لشؤون القدس تؤكد أن الوصاية والرعاية الهاشمية للمقدسات الاسلامية والمسيحية  في القدس وعبر تاريخها حرصت على الاهتمام بالكنائس والاديرة وشؤون جميع الطوائف المسيحية في القدس، ففي عام 1949 شارك الملك المؤسس عبدالله الأول رحمه الله خلال زيارة له إلى القدس بإخماد حريق شب في كنيسة القيامة ، وفي عهد جلالة الملك طلال بن عبد الله عام 1951م تم طرح مشروع وعطاء لإعادة تصفيح قبة كنيسة القيامة بسبب تعرضها لحريق سابق أشارت بعض المراجع أنه كان قد حدث عام 1950م، وخلال فترة الادارة الاردنية للضفة الغربية بعد وحدة الضفتين عام 1950م استمرت جهود المغفور له الملك الحسين بن طلال في رعاية هذه المقدسات وقد استثنى جلالته عام 1988م الأوقاف الاسلامية والمسيحية من قرار فك الارتباط الاداري والقانوني بين الضفتين، والذي جاء تلبية لرغبة الاشقاء العرب والفلسطينيين بعد مؤتمر الرباط .

واليوم في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله تستمر أمانة الوصاية حيث كانت مبادرة جلالته عام 2016م باعمار القبر المقدس في كنيسة القيامة،  وفي عام 2017م تم ترميم كنيسة الصعود على جبل الزيتون على قمة السفح الغربي المشرف على بلدة القدس، وفي عام 2018 م استحق جلالته  جائزة تمبلتون ، وقد خصص عام 2019م جزءاً  منها لغاية الانفاق على بناء وترميم كنيسة القيامة، علماً بأن جلالته تسلم جوائز اخرى مثل جائزة مصباح السلام عام 2019 وجائزة زايد للاخوة الانسانية عام 2022م، والتي استحقها بسبب رعايته وحرصه على قيم التسامح والعيش المشترك، وعن العلاقة الاردنية الهاشمية بالمسيحيين يقول جلالته في مقابلته مؤخراً مع اذاعة ( سي إن إن) بتاريخ 28 كانون الاول 2022م :” كان الأردن الملاذ للمسيحيين الأوائل وللسيد المسيح عيسى عليه السلام نفسه، فهو عبر هنا إلى الأردن إثر الاضطهاد الذي تعرض له، أعتقد أن هذا أمر في صلب تراثنا”، وعن المسيحيين ومقدساتهم في القدس قال جلالته :” نحن الأوصياء على المقدسات المسيحية كما الإسلامية في القدس. ما يقلقني هو وجود تحديات تواجه الكنائس بسبب السياسات المفروضة على الأرض. إذا ما استمر استغلال القدس لأغراض سياسية، يمكن أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة بسرعة كبيرة”، ليشير جلالته بهذه الكلمات إلى جُملة إصيلة من المشاعر والتاريخ والثوابت الخالدة ويرسخ جلالته لعلاقة مستقبلية دائمة تؤكد إن المسيحيين ومقدساتهم ضمن جوهر اهتمام جلالته  وبوصلة عمله ونشاطه الدؤوب في حماية أهلنا في فلسطين والقدس ومقدساتهم الاسلامية والمسيحية وحقهم التاريخي بالحفاظ عليها وصونها من خطر التهويد، وعلى خطاه ونهجه يحرص صاحب السمو الملكي الامير الحسين بن عبد الله الثاني ولي العهد الذي يشاركهم همومهم واحتفالاتهم بالاعياد المجيدة، كما أكد في ذات السياق الهاشمي الحريص على العلاقة المجتمعية والعيش المشترك صاحب السمو الملكي الامير الحسن بن طلال الذي أشار  أثناء لقاء سموه ممثلي الكنائس والطوائف المسيحية بمناسبة الاعياد المجيدة  على ضرورة تحويل الأعياد الدينية إلى أعياد وطنية تعزز دور الدين في المجتمع وروح التضامن والتكافل، ولسموه كتاب مهم بعنوان ( المسيحية في العالم العربي)، وضح فيه التاريخ والعلاقة الوثيقة بين المسلمين والمسيحيين في عالمنا العربي.

 وتؤكد اللجنة الملكية لشؤون القدس أن سياسة التهويد الاسرائيلية تستهدف الارض والانسان والمقدسات الاسلامية والمسيحية على حد سواء في القدس، وتسعى عبر برامجها وانشطتها  الصهيونية المعارضة لجميع القوانين والقرارات الشرعية والاتفاقيات الدولية الى تحويل كامل مدينة القدس الى مدينة يهودية  تكون عاصمة مزعومة لدولة اسرائيل، فلم يعد سراً بأن اسرائيل وعبر حكوماتها واجهزتها المختلفة تستهدف كل مدينة القدس ، خاصة ونحن اليوم امام حكومة اسرائيلية يمينية يغلب عليها الاحزاب الدينية الصهيونية المتعصبة في برامجها وتصريحاتها ضد كل ما هو غير يهودي، الأمر الذي يجعلنا من بداية هذا العام أمام خطر يهدد السلام في المنطقة والعالم، ويستدعي وحدة الصف الفلسطيني والعربي والاسلامي والعالمي ضد الممارسات الاسرائيلية التي حولت الاعياد المجيدة  التي ينبغي أن يسودها الطمأنينة الى مناسبات لنشر الاستيطان وفرض الهوية اليهودية الساعية لمحو الهوية العربية الاسلامية والمسيحية التاريخية لمدينة القدس، لذا على المنظمات الدولية السعي لالزام اسرائيل بقرارات الشرعية الدولية بما فيها حل الدولتين واقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، وعلى العالم التنبه من أننا أمام سياسة استعمارية لا تعترف بالحقوق ولا بحرية العبادة وحق أصحاب الاديان بمقدساتهم، مما يهدد كل الاعراف والقيم الاخلاقية والانسانية ويدفع بالجميع نحو طرح سؤال مشروع، وهو الى متى ستبقى اسرائيل تعارض الشرعية الدولية وتمارس العنف والابرتهايد وهي تزعم بانها دولة ديمقراطية محبة للامن دون وجود ارادة دولية تردعها؟ ، علماً بأن لا سلام ولا أستقرار يمكن أن يتحقق للأجيال، ما دامت اسرائيل تنتهج سياستها العنصرية البغيضة.

2/1/2023

Comments are disabled.